استوقفتني امرأتان عمراهما يتجاوزان السبعين بصحبة كلب يقمـن بإدخاله إلى مستشفى الأطفال للترويح عنهـم ثـم التودد إليهم بالحديث واللعب والمداعبة بغض النظر عن لون الطفل وجنسيته.. وعندها سألت لماذا يقمـن بذلك:
ردت علي إحدى العاملات في المستشفى قائلة : أغلب من فقدن أزواجهـن أو تقدمن في العمر يقمن بأعمال تطوعية تحفظ لهن صحتهـن العقلية. ثم أردفت قائلة:
للأسف لاحظت أكثر النساء العربيات وخاصة القادمات من بلادكِ ما أن تـتجاوز الخامسة والخمسين خاصة من فقدت زوجها حتى تلوكها جميـع الأمراض المستعصية، وتجدين أولادها يركضون بها من مستشفى إلى آخر ، فإحداهن قبـل أيام أقول لها مازلتِ صغيرة على هذه الأمراض فتـتـنـهد قائلة: ماذا تـتوقعين من امرأة فقدت زوجها قبل سنوات!.
الحقيقة أنا لست ضد وفاء المرأة لزوجها بعد وفاته، وإنما كان باستطاعتها أن تحفظ صحتها بدلا من أن تحرم أبناءها منها أيضا بعزوفها عن الحياة وكأنها تـتناسى قوله عليه الصلاة والسلام «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا...».
إذا كانت هذه العجوز تـتطوع للعمل بدلا من أن تستسلم للعجز حتى تقوي عقلها وتحفظ صحته، فالأولى أن تفعل ذلك المرأة المسلمة التي سيكون دافعها الأكبر هو الجزاء الأخروي.
كان بإمكان هذه التي أعلنت الموت البطيء بعد وفاة زوجها باسم الوفاء أن تـتطوع من أجله ومن أجل نفسها في الأعمال الخيرية ليس في المال فقط، فمجتمعنا يحتاج إلى أبعد وأعمق إنسانيا، هناك امرأة معنفة تحتاج إلى امرأة من بنات جنسها تـقف إلى جانبها بالكلمة الطيبة، هناك أطفال مرضى بحاجة إلى نساء يمثـلـن أجمل معاني الأمومة في التخفيف عنهم وعن أمهاتهم، والمرأة تملك الكثير لتقدمه من أعمال تطوعية ولكي تستطيـع أن تنتج وتقدم الأفضل عليها أن تـقرأ وتـقرأ دون توقف، لأن حياتها الحقيقية في قراءة ما ينشط خيالها ويدفعها للعمل وعدم الاستسلام.
إن موت رفيق العمر بالتأكيد ليس بالأمر الهـين، خاصة إذا انشغل الأولاد بحياتهم فتشعر هذه الأم أن من كانت تعيش لأجلهـم ينسجون خيوط مستقبلهم بمفردهم، فتعتقد أن دورها في الحياة انتهى، فتستسلم للوحدة، وقد تعد الأيام في انتظار اللحاق برفيقها، وكان الأفضل لها ولصحتـها أن تبحث عن مجالات لإسعاد نفسها بإسعاد الآخرين، فليس أبناؤها فقط من هم بحاجتها، وإنما المرأة تملك بطبيعتها قدرات هائلة من الأحاسيس المرهفة وتحمل الآخرين.
إذا كانت طباخة ماهرة تـتبرع بتعليم الفتيات أصول الطهي وإذا كانت معلمة سابقا تـتطوع بتدريس الفتيات دروسا خاصة حسب تخصصها أو تـتبرع بحضانة في منزلها لرعاية أطفال العاملات أو تكتب مقالات حول تجاربها وغيرها من أوجه التطوع.
إذن أقوى أنواع العنف ضد المرأة هو دفنها حية وليت هذا الدفن كان وهي صغيرة لا تعي من الدنيا شيئا وإنما دفنها وقد اكتمل شبابها وأدت رسالتها تجاه أبنائها ثم تقـرر مع أبناء مجتمعها أن تدفن لأنها أصبحت عاجزة.
فقد تـتعرض للسخرية من بنات جنسها عندما تقـرر أن تحافظ على رشاقتها في نادٍ رياضي أو عندما تداعب أحفادها وتـتسابق معهم، أو عندما تعبر لزوجها عن حبها له، أو عندما تنافس ابنتها في أناقتها وكل ذلك لا يساوي شيئا مقابل منعها من أن تعيش حياتها بقناعتها لأنها أصبحت نسخة مكررة من نساء جيلها !.
هذا ما أردت تسليط الضوء عليه بمناسبة ذكرى القضاء على العنف ضد المرأة الذي ابتدأ قبل أيام 25 نوفمبر وسيستـمـر إلى الأسبوع القادم ، وأعلم أن هناك قضايا عنف كثيرة في العالم ضد المرأة فأكثر من 70 في المائة من النساء يتعرضن للعنف في حياتـهـن.
وما بين نصف مليون إلى مليونين من الأشخاص سنويا معرضون للاتجار بهـم، «ويتـمثـل ذلك في عدة صور منها البغاء والسخرة والرق والعبودية تمثـل النساء والفتيات نحو 80 في المائة من الضحايا المسجلة».
لكنني أعتـقد أن أهم أنواع العنف التي تعنينا بالدرجة الأولى ليس ماذكر سابقا من أنواع الاتجار الجسدي وإنما نوع بتعلق بالرق والسخرة العقلية وهو يستحوذ على عقول أمهاتنا المنسيات، وموقنة أن الكثير سيركز على جانب العنف الجسدي وسينسى أن عنف المرأة ضد نفسها هو أقسى أنواع العنف.
أتمنى أن يجد ما ذكرته صدى عند سيداتنا الفضليات ويعتبرن مابعد الخمسين هي البداية الحقيقية لهن في اكتشاف ذواتهـن وقيمتـها، فأبناء الوطن مازالوا بحاجة إليهـن وإلى رقة قلوبهـن.
أرجوكن حافظن على صحتكن وخاصة العقلية ولا تـتركن القراءة يوما واحدا.
انطلقن في جهات متعددة للتطوع فأبوابه كثيرة.. والعمر والأجر المديد لكن بعون اللـه.