الوفاء من أعظم السمات الاخلاقية التي ترتفع بالوفيّ الى قمم الانسانية العالية ، ويستوي ذلك الرجال والنساء ...
وقد أُتهمت المرأة بأنها بعيدة عن (الوفاء) حتى قال قائلهم :
(دَعْ ذِكْرَهُنَّ فما لهُن وفاءُ ) ...،
وهذا الاتهام القاسي، مصطبغ بلونٍ من الانفعال الشديد ، فكم من امرأة فاقت الرجال بوفائها ؟!
-2-
وفي كتب السِير والتراجم والتاريخ والأدب، قصص وحكايات عن الاوفياء ، تستلُ الاعجاب وتستثيرُ ذوي الألباب ..
ومن هذه القصص الرائعة قصةُ زوجة (وهب بن زمعة) الجمحي المتوفى سنة 63 هجرية في الكوفة .
-3-
وُصِفَ (وهب بن زمعة) بالجمال الفائق ، وقد جمع بين جمال الخَلْقِ وجمال الخُلُقِ حيث كان تقيّاً عفيفاً نزيهاً ....
وقد خرج مرّة في سَفَرٍ أوصَلَهُ الى (جيرون) ، وفيها التقى بامرأةٍ سأَلتْهُ أنْ يقرأ لها كتاباً أطلعَتْه عليه ،
فقرأ لها الكتاب ، فقالت :
انتظرني قليلا ،
وانطلقت الى قصر منيف قريب، ثم عادت لتطلب منه قراءة الكتاب لامرأة في القصر لا تستطيع الحضور عنده ، ووعدته بتقديم مكافأة مُجزية وقالت :
إنَّ الرسالة من رجل غائب وهي في غاية القلق عليه ..!!
وكان ما قامت به هذه المرأة " فخاً " وقع فيه (وهب)، حيث اكتشف أنّ في الدار امراةً جميلةً ، سرعان ما دَعَتْهُ الى نفسها وحالت بينه وبين مغادرة القصر .
باءتْ كل محاولات الشابة الجميلة صاحبة القصر الشاهق، الغاص بالجواري في اجتذاب (وهب) لاقتراف الفاحشة، بالرغم من التعذيب الشديد ، والتضييق الأشد عليه في المأكل والمشرب ، حتى كاد أنْ يلفظ أنفاسَهُ جراّء ما لقي من معاناة وأهوال ...
انّه بقي صامداً لايلين .
وهكذا هُم الأبرار الصالحون، الذين يخشون ربهم في السر والعلن ، والذين يؤثرون دينهم على كل ما يُقدَّم لهم من الاغراءات ...
وهنا بدأت صاحبةُ القصر بترويض نفسها على القبول بالزواج منه ، على كتاب الله وسنة نبيه (ص) وفراراً من الحرام والآثام ...
وهكذا كان
وقد وَفَرَّت الشابة الجميلة لزوجها ألوان المتعة ، وتكفلت له بتوفير الأجواء الناعمة الباعثة على السعادة والارتياح .
غير انها لم تسمح له بمغادرة القصر على الاطلاق، ومضت السنون و (وهب) في لهفة بالغة وشوق شديد لأهله ولأولاده، الذين انقطع خبرُه
عنهم حتى يئسوا منه ، واقتسموا تركته ، إلاّ أنّ زَوْجَتهُ أبت أنْ تاخذ من التركة شيئاً ،
وواصلت بكاءها وأحزانها .
وفي ذات مرّه دخلت عليه صاحبةُ القصر فوجدّتْهُ كئيبا باكيا، فبادرته بالسؤال عن السبب فقال :
انك قد باعدت بيني وبين أهلي، وأنا لا ادري ماذا حلَّ بهم غِبَّ هذا الانقطاع الذي استمر لعدة سنوات ؟
وهنا :
اذنت له بالسفر، على أنْ يعود اليها ضمن مدةٍ لا تتجاوز السنة،
وحين عاد الى أهله :
وجد بناته قد تزوجن ، وأخذن حصصهن من الميراث ...!!
وكذلك كان حال الأولاد، فقد تزوجوا ايضا وأخذوا حصصهم من ماله، وبقيت أُمّهُم ، وهي زوجتُه الوفية ، تواصل البكاء، وترفض أنْ تأخذ شيئا من التركة .
فسارع الاولاد الى إعادة ما أخذوا من الأموال الى أبيهم ، الذي قال لهم :
" ورثتموني وأنا على قيد الحياة "
ثم انّه دفع المال بكامله الى زوجته الوفية بحيث لايشاركها أحد فيه ..!!
ثم انّه وفى بوعده لصاحبة القصر ، فقد سافر ضمن الأجل المحدد، بعد أن أخبر زوجته الوفية بذلك ، ولكنه فوجئ بموتها عند الوصول ...
إنّ زوجة (وهب زمعة) الأولى ، غدتْ مضرب الأمثال في وفائها، الكاشف عن درجة عالية من المناقبية والأصالة .
أقول :
لَيْتَ السياسيين العراقيين ، - المفتونين بذواتهم حدّ العشق – يملكون شيئاً من وفاء هذه المرأة لوطنهم وشعبهم، الذي توالت عليه الأزمات والمشكلات ،وتناهبت أجساد أبنائه المفخخات والتفجيرات، وتضّخمت بثرواته المنهوبة الحسابات في شتى القارات ...!!
انّ الوفاء للوطن هو من أعظم مراتب الوفاء، ولكنه – للاسف – عاد نَسْيّاً منسيّاً .!!