هذا الجدل العنيف الدائر فى هذه الأيام حول الحجاب والسفور، لماذا يلجأ المشاركون فيه لهذا العنف الصاخب الذى لا يقتصرون فيه على
اللهجة التى يستخدمونها فى طرح أفكارهم , بل يتجاوزونها إلى السباب المقذع والاهانات المتبادلة؟!هذا الصخب ليس له إلا معنى واحد هو الذى عبر عنه المصريون فى نصيحتهم للعاجز، وهم فى الحقيقة يسخرون منه، بأن يأخذ خصومه بالصوت حتى لا يغلبوه بالعقل والمنطق.
ونحن نفهم بالطبع أن تتعدد مواقف المصريين من الحجاب وأن تتعارض ولكل رأيه وثقافته ودوافعه. كثير من المصريين يعتقدون أن الحجاب واجب دينى ملزم. وهم يستندون فى هذا لنصوص لا يشك فى صحتها أحد. لكن أحدا مع ذلك لا يستطيع أن ينكر أن النصوص الدينية التى يستند لها هؤلاء تحتمل أكثر من تفسير. هناك من يعتقد أن الحجاب هو هذا النسيج الذى تغطى به المرأة رأسها، وآخرون يرون أن هذا فهم دارج لا يستند لمعرفة صحيحة بأصل الحجاب المذكور فى قوله تعالى «وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب» فالحجاب هنا هو ما يكون من جدار أو ستار يحجب نساء صاحب البيت عن ضيوفه الأغراب. والآية تتعلق بنساء النبى صلى الله عليه وسلم بالذات.
وأنا لا أرى بأسا فى أن نختلف حول الحجاب إذا وقف اختلافنا عند هذا الحد. لمن شاء أن يتبع المدافعين عن الحجاب، وفى مقدمتهم عدد من كبار رجال الأزهر، ولمن شاء أن يتبع قاسم أمين، وأحمد لطفى السيد، وهدى شعراوي، وسيزا نبراوي، ودرية شفيق وغيرهم وغيرهن ممن دعوا للسفور وجعلوه تعبيرا عن تحرر المرأة، وإذا كان الدكتور سيد طنطاوى شيخ الأزهر السابق قد دافع عن الحجاب واعتبره فريضة دينية فقد رأينا شيخا آخر للأزهر سبق الطنطاوي، وهو الشيخ عبدالرحمن تاج يقف ومعه زوجته وابنته دون حجاب فى صورتين التقطتا لهم وإلى جانبهم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
نحن نحتاج فى حوارنا حول الحجاب لمعرفة أصله وتتبع تاريخه فى المجتمعات والعصور المختلفة. ونحن لا نكاد نعرف شيئا عن ملابس المرأة العربية فى الجاهلية وصدر الإسلام، ولاشك فى أن ملابس المرأة المصرية الآن أكثر تحفظا واحتشاما لسبب منطقى هو أن الملابس لم تكن متوافرة لدى العرب القدماء، ومما يؤكد ذلك أن اسماء الملابس فى اللغة العربية معظمها مأخوذ من أصول أجنبية.. السروال فارسي، والقميص لاتيني، والقبطية مصرية، وقد نزلت بعض الآيات فى حق نساء كن يقضين حاجتهن فى الخلاء فيتعرضن للعيون لأن البيت العربى القديم لم يكن فيه مكان مخصص لقضاء الحاجة، إلى أن المكان الذى وصلت إليه المرأة فى العصور الحديثة يحميها إلى حد كبير مما كانت تتعرض له من قبل، والحجاب إذن لم يعد يؤدى الدور الذى كان يؤديه فى العصور الماضية، وربما أصبح له الآن دور معاكس فهو يذكر المرأة بما كانت عليه جدتها فتتقمص شخصيتها وتسلك سلوكها، ويذكر الرجل بما كان عليه جده فيتعامل مع المرأة وكأنها محض جسد مثير لا يحول بينه وبينه إلا هذا الحجاب الشفاف الذى يضاعف الإثارة ولا يمنعها.
فإذا استحضرنا هذه المعانى وانتبهنا لهذه التداعيات عرفنا أن الاختلاف حول الحجاب ليس اختلافا بسيطا أو محدودا، وإنما هو اختلاف حول أهم القضايا التى واجهتنا فى نهضتنا الحديثة،
وقد واجهتنا مسألة الحجاب والسفور حين دخل الفرنسيون مصر فوقف المصريون أمام نسائهم مشدوهين وكتب الجبرتى يقول عنهم إنهم «كانوا يمشون مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات، فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء»، وقد رد الطهطاوى على الجبرتى فى «تخليص الابريز» فقال «إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتى من كشفهن أو سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة أو الخسيسة»..
ونحن نعرف أن مسألة السفور والحجاب ارتبطت طوال القرنين الماضيين بالمعارك التى خضناها فى سبيل التحرر والتقدم وتأثرت إيجابا وسلبا بما حققناه وما لم نحققه فيها.
أحمد عرابى قاد الثورة على الخديو المستبد فوقف إلى جانبه الإمام محمد عبده الذى قاد الثورة على الأزهر، وطالب بتجديد الفكر الديني. ومن تعاليم محمد عبده ظهر قاسم أمين الذى قاد الثورة على نظام الحريم، وطالب بتحرير المرأة فمنعه الخديو عباس حلمى من دخول قصره. لكن الثورة اشتعلت من جديد بقيادة سعد زغلول، وشاركت فيها المرأة وخرجت مع المتظاهرين تطالب بالاستقلال التام أو الموت الزؤام وتواجه جنود الاحتلال بوجه سافر هلل له حافظ إبراهيم فى قصيدته التى قال فيها:
خرج الغوانى يحتججن ورحت أرقب جمعهنه
فاذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه
فطلعن مثل كواكب يسطعن فى وسط الدجنه
وأخذن يجتزن الطريق ودار «سعد» قصدهنه
يمشين فى كنف الوقار وقد أبن شعورهنه!
هذه القصيدة يعلن فيها شاعر النيل انتصار الدعوة للسفور وارتباط حرية المرأة بحرية الوطن. فالوجوه الساطعة كواكب تطل على دار سعد زغلول، والإبانة عن الشعور تعنى التعبير عن الروح الوطنية، وتعنى أيضا كشف الرأس والتخلص من الحجاب.
لكن الذى حققته ثورة عرابى وثورة 1919 للمرأة سلبته منها هزيمة 1967 التى اعتبرها الإخوان وحلفاؤهم عقابا إلهيا حل بنا لأننا انخرطنا فى مشروع وطنى كان من شأنه لو نجح أن ينقلنا نقلة حاسمة، ويرسخ أقدامنا فى العصور الحديثة، ويقضى على جماعات الإسلام السياسى قضاء لا رجعة فيه، وقد فشل هذا المشروع لأنه افتقر للديموقراطية، وكان فشله الذريع هو الفرصة الذهبية التى تلقفها الإخوان وحلفاؤهم، لا ليعودوا فقط لممارسة نشاطهم الذى كانوا يمارسونه من قبل، بل ليخترقوا كل مجال، ويتسللوا الى كل مؤسسة وهدفهم واضح معلن، فالإسلام هو الحل، والإسلام عندهم هو إسلام العصور الوسطي، الدولة الدينية، وحكم الطغيان، والنقل لا العقل، والمرأة ناقصة عقل ودين.
باختصار، مشروع الإخوان هو غسل مخ مصر وإزالة كل ما دخله وعلق فيه من الأفكار والمبادئ والقيم والنظم التى تبنيناها وأخذنا بها مكاننا فى العصور الحديثة.
ولقد بدأ أن مصر عادت بالفعل الى عصور الظلام. فالشارع ، والمدرسة، والجامع، والجامعة، والشركة، والجمعية، والنقابة، والقناة الفضائية فى أيدى الإخوان والسلفيين. والمرأة محجبة منتقبة، والفنانون يعتزلون الفن بالفتاوى والرشاوي، والعقل معطل متهم، والمفكرون يتعرضون للاغتيال.
وفجأة وقعت الواقعة وسقط نظام يوليو وسقط بعده نظام الإخوان، وأثبت المصريون فى الثورتين اللتين لعبت فيهما المرأة المصرية دورا مشهوداأن النهضة لم تضع، وأن الإسلام السياسى ليس هو الحل، وأن الديمقراطية هى البديل عن النظام العسكري، وأن العلمانية هى البديل، عن نظام الإخوان الفاشي. وكما أيقظت ثورة 1919 المرأة المصرية وحررتها من الحجاب أيقظتها ثورتا يناير ويونيو وطرحت عليها وعلينا مسألة الحجاب لنناقشها من جديد.
هل باستطاعتنا أن نتجاهل هذا التاريخ ونناقش هذه المسألة بعيدا عن السياسة؟ لا أظن!