علّموها منذ كانت طفلة أنّ قيسا مجنون العشّاق... وأنّ الأعراب تغنّت به حتى الممات...قرأت هي عنه في كتب العشق وقصص الأموات...لكنّها اختزلت لنفسها مساحة بعيدة كل البعد عن موت قيس... آمنت هي أنّه لكل زمان لا بد من قيس...
منذ خمس عشرة سنة غفت طفولتها علَى يدي قيس.. وأفاقت مراهقتها المجنونة... تعلّمت أنّ هذيان قيس لم يواريه الثرى بعد... على يديه استفاقت أساطير الشعراء فباتت تسرد حكايتها على مسامع الرفاق... لا تدري أَشاعرُها هو أم هو مجرد قيس... لا يهم من هو..
ما أكرم تلك الصدفة التي أضحت فيها حين التقته حتى انعزلت عن الكون ....ساعات هي مرت أو سويعات...ليست تدري... تمنت لو تقف الكرة الأرضية عن الدوران... وتتعطل عقارب الساعات والأزمان..
ثم رحلت بعد أول لقاء تنحت الكلمات وتبحث عن أحرف جديدة.. كم اشتهت حينها أن تشرب من الشمس عنفوانها، وتتنفس عطر التربة في ساعات الفجر الأولى بعد قطرات الندى، وتجمع كلّ خيبات الماضي وتواريها في طي من النسيان علّها تعلن عن ميلاد جديد..
تملّك حب قيس القلب منها مذ سنين... وإن لاحت الأسرار فهي رسائل وهل لرسائلها من مجيب...وكم اشتهت أن تكتب آلاف القصص والأساطير لتقول بكل بساطة إنّ زمني به قيس.. وأنني أحب قيس... وأنّ الأعراب كذبوا حين قالو أنّه لم يعد هناك من عاشق مجنون...
اجتمعت الأيام والأشهر... انتظرته هي ليوم ولم يأتِ... انتظرته سنة ثم قرنا فدهرا... ولم تكن تلك سوى ثواني أثقلتها بالانتظار... في سراب اللّون والظلّ وفي بعض دمها انتظرت... ومرّ عيد الميلاد... هدية من الأندلس وأخرى من بلاد كنعان... حنظلة وشال فلسطيني وعطر رومي... أحبت هي أن تقاسمه كلّ ما تهوى... وردة حمراء وتمثال جلال الدين الرومي وخريطة أرض تبحث عن هوية....
لا تدري... هل ما حدث مجرّد قصة حب من فرط الفقدان والخوف صدقت أنها الحقيقة المطلقة.... أم كانت مجرد خطوة أولى بدل أن تقع على اليابسة ابتلعتها هوة الفراغ...
اسكتت صرختها... هيأ لها أنّ القدر مجرد قلم رصاص يُمحى خطه بجرة نسيان... تكابرت هي.. ولكن.. ماذا تسمي هذا وأي نعت يستقيم؟... من تنتظر هي؟... ملامح قيس كثيرة... ومسالكه باردة... يرسم مواسم للصدمات والانكسارات على أصابعها...
احتاجت من يوقظها من الانتظار ويقول لها صباح الخير.... فقد كان حلما... إذا كان حلما فمن يعيدها إلى تيه الموت على رعشة الحياة....
تعودت أن تصافح كلّ ليلة ملامحه في صور تسترق إليها النظرات كلما خلت بنفسها في ظلمة غرفتها الصغيرة... عطشى هي لرؤية اللؤلؤ يتساقط من ثغره في كل ابتسامة.. أضناها الهجر.... وهل يغمض جفن للمُعنّى...
ولكن انتظار الوداع أكثر ألما من حدوثه... أو لم يكن ممكنا أن يؤجل رحيله قليلا، فقط حتى تضمه إلى صدرها، تمنحه من العمر آخر أنفاسها...
لكنه رحل ووقف الموت على عتبات بيتها... طفلة طعنها الموت لا تندم على الموت... فالأمر كان محتوما... يا جرحاً ممتداً فوق مساحة القلب الضيقة كلما تذكرته، أحست بحاجة إلى دمعة تخرج مع قطرة من دم عين... أفلحت في بعض المرات في ردعها، وفي أغلب الأحيان خانتها لتتساقط فوق قلب كجمرات متقدة.
بعد خمس عشرة سنة فشلت هي في قراءة قصص الحب... وانعطفت تؤسس للهزائم مدنا بلا حدائق.... ذابت كقطعة سحب في ضوء الشمس... غبية هي لأنّها بحثت عن قيس رغم أنّ الأعراب علموها أنّ قيسا مات منذ أكثر من مئة قرن...