من مدريد تغادر الطائرة مطار بارخاس متجهة جنوباً إلى مدينة ( لاس بالماس) ، ساعتان وربع الساعة فوق المحيط الأطلسي هو المدى بين أوروبا العتيقة ومقصدنا في الرحلة المبهرة لزيارة جزر تعد الأكثر سحرا وجمالا على كوكبنا .ومع علمنا أن تقييم الجمال أمر نسبي لكنّ جمال طبيعة جزر الكناري السبع ونسائها أمر محسوم ، حسبنا أن نرى وجوه النساء النضرة تشع بابتسامات عذبة وينثرن التحايا بأصواتهن المغردة كعصافير الغابات وهن يرافقننا أو يؤدين أعمالهن بائعات أو ساقيات أو صحفيات في المهرجان ، جمال المرأة في جزر الكناري مزيج من السحر الإسباني والملامح الأفريقية والأنوثة اللاتينية، مزيج خلاسي باهر هو نتاج الطبيعة الفريدة وتعدد الهويات والثقافات فما بين الثقافة الإسبانية والمؤثرات الأفريقية وتراث السكان الأصليين تتشكل ذاكرة الجزر الثقافية وتبهرنا نتاجاتها المختلفة من أدب وموسيقى ورقص ومواثل تاريخية تميز الجزر ، فهنا توقفت سفينة كولومبوس في طريقها إلى العالم الجديد عندما مرض ملاحوه فتركهم واصطحب سواهم من سكانها وتزود بالمؤن من غلالها وتبقت بعده معدات وخرائط وإسطرلابات أقاموا لها متحفا يعتزون به تظلله أشجار النخيل وتتعالى وراءه قباب الكاتدرائيات .
ومن لاس بالماس مدينة النخيل تنقلنا حافلة على شاطئ المحيط بين مراسي السفن وتحت ذرى الجبل مع روائيين من أفريقيا وأمريكا اللاتينية وإسبانيا إلى قرية أغويماس التي ولدت من تزاوج البركان والمحيط عند ذرى جبل تكسوه أشجار البوبايا، أزقة أغويماس متاهات بمنازل ملونة بالأصفر و البرتقالي والقرميدي والوردي والأبيض الذي ينهمر عليه الأزرق البحري من أطر النوافذ وعناقيد زهور الأرتنسيه والموسيقى.
فردوس اختصرته الطبيعة في أغويماس أجمل قرى الجزيرة التي يتساوى ربيع فصولها طوال العام إلا من أسبوع رياح موسمية وسط الصيف ، تركز القرية وجودها الجغرافي حول كاتدرائية سان سبارتيان الأثرية تحيط بها الحانات والكافيهات وقاعات الموسيقى والمراقص: تصالح بين الدين والدنيا من أجل سعادة الإنسان وتحرر الروح واكتمال معنى الحياة .
شوارع القرية الملونة ترنو إلى الجبل ومن جانب آخر تنحدر الأزقة في طريق صخري منحوت نحو المحيط بين أغويماس وقرية الصيادين ( أريناغا) تزهو الشوارع بنباتات الصبّار العملاقة الغريبة الأشكال والصخور الطبيعية تجاورها منحوتات حداثية أو أعمال نحت فطرية وسط ساحات القرية الصغيرة وعلى تلال مرتفعة تحاذي المحيط تتفتح زهور معدنية هي دوارات الريح أو طواحين الهواء كحديقة تفجرت من بركان تولد أذرعها الطاقة من عصف رياح الأطلسي وترشها أضواء كهرباء وضجة مكائن في القرى النائمة على المنحدرات و تشكل أفق الجزيرة وترسم تخطيطا للفارس النحيل دون كيخوته يرفع سيفه مازحا بوجه الجميلات مقتديا بالسلوك المهذب لسكان الجزر الذين يحتفون بالمختلف والغريب ،فقد ورثوا عادات أسلافهم في موانئ تمر بها رحلات المستكشفين والمغامرين ، فهنا يتعارف الغرباء بعفوية ويبادرك العابرون بتحيات وابتسامات ،وما أن تجلس في مقهى أو مطعم حتى يغمرك الترحاب المؤنس من النساء والرجال وهم يحتسون قهوتهم أو نبيذهم أمام أمواج المحيط .
تخدعنا البشاشة العفوية ونظن شعب الجزر موفور السعادة ، لكن أحد المعنيين بحياة الجزر وهو عالم أنثروبولوجي يخبرنا أن الجزر المعزولة بالمياه ليست مكانا للمباهج والسعادة دائما ،فسكانها تطحنهم العزلة عن العالم و يغريهم المحيط بالفرار لكنهم يعجزون عنه فيكابدون نوعا من شغف بالرحيل وكآبة تسمى المرض الجزيري ترفع في مواسم معينة نسبة الانتحار لدى سكانها المعزولين عن أراضي القارات وغواياتها.