عندما نبلغ سن الستين نجد احساسا آخر نحو الأشياء والناس، كما نحس مشاعر أخرى للمروءة والأنسانية والشرف اكثر مما كنا نحس قبلا. وبكلمة اخرى نجد ان لنا من القيم والأوزان ما يمكن ان نسميه حِكمْ.
وهذه الحكمة انما هي ثمرة هذا العمر الطويل وما مرّ بنا من الأحداث وما كسبنا من التأمل والتفكير فيها وما وقع بنا من كوارث استخلصنا منها الدلالات و العبر. ذلك اننا نعيش في مجتمع نصطدم بناسه ومصالحه ومؤسساته ونمارس فيه مصاعب العيش ونتحمل مسؤليات الحرفة، وبها نتعلم ونتربى.
وليس التعلم والتربية ان نتتلمذ في المدرسة او نقضي ستة سنوات في الجامعة، لأن قصارى ما نحصل عليه في المدرسة والجامعة لا يتعدى ان يكون تعلما وهو تعليم للمعرفة اي انه ليس تربية للسلوك المطلوب اوالتصرف اللائق اللذان يعينان الفرد الى النجاح في الحياة.
وتستطيع ان تسأل اي انسان في الخمسين من عمره من خريجي الجامعات، كيف كان فور خروجه من الجامعة وحصوله على شهادتها ؟
كان انسانا خاما وكان يصطدم بالمجتمع مرة بعد اخرى لجهله. ولكنه كان يتربّى من هذه الاصطدامات. وهو يخبرك بما كسب من حكمة وسداد، وصحة للنفس، واتجاه حسن، انما كسبه من المجتمع وليس من الجامعة. فالمجتمع يربينا ويكوّن شخصيتنا ويعين اهدافنا ومنه نأخذ الميزان الذي نزن به القيم فنقول : هذا فضيلة وهذا رذيلة.
واختلاطنا بالمجتمع يحملنا على الاهتمام بالسياسة والعلم والادب لأننا نجد ان حياتنا متصلة بكل هذه الاشياء لأتصالنا بالمجتمع. ما الذي نعني حين نقول: انه يجب ان تكون لنا اهداف انسانية ؟ نعني اننا يجب ان نهتم بالعدل والكرامة والسلم والسياسة، ويجب ان نقرأ الجرائد لهذا السبب. ومرجع هذه الاهتمامات جميعها اننا من المجتمع وفي المجتمع لنا عواطف ونختلط به ونحترف فيه حرفة منتجة اي لنا احساس اجتماعي.
فإذا حرمنا انسانا الأختلاط بالمجتمع فاننا بذلك نحرمه الاحساس الاجتماعي، بكل ما يحمل هذا الاحساس من مسؤلية اخلاقية قوامها الفضيلة و الشرف والانسانية.
وهذا هو حال المرأة في معظم ارجاء الوطن العربي الكبير كما تُعامل في الوقت الحاضر. فالرجل يفرض عليها الانفصال من المجتمع بالبقاء في البيت. فكأن زوجها يعيش في الصحراء. صحيح انها لم تبلغ مبلغه في الانفراد لانها تحس شيئا من المسؤلية بقوة الخدمة والاختلاط مع زوجها وابنائها في البيت، لكن احساسها هذا ناقص، اذ هو محدد بجدران البيت ولذلك لا تحس ما نحسّه نحن الرجال من يقظة الفكر والقيم الاجتماعية .
ما هي هذه الدنيا التي نحيا فيها سبعين سنة او اكثر ؟
هي المعارف التي تنبه ذكائنا وهي الاحداث التي تزيدنا حكمة وهي المباهج التي تفرحنا ونحن اطفال ثم شبان ثم كهول ثم شيوخ وليس من حق احد ان يحرمنا هذه الاستمتاعات، سواء في ذلك الرجال والنساء. فإذا كنا نقول انه على الرجل ان يكون حكيما فاننا يجب ان نقول انه يجب ان تكون المرأة حكيمة.
وهي لن تكون حكيمة اذا حرمناها معارف الحياة واختباراتها سواء منها ما يسر وما يؤلم، ونحن ننقص انسانيتها بالقدر الذي ننقص به معارفها واختباراتها.
هناك الاف الجهلاء من الازواج الذين يدعون انهم يحمون المرأة وهم يخفون كذبهم بالكلمات المبهرجة، ويتضح هذا الكذب في الاحساس حين نعرف ان مشاق البيت للمرأة اكثر من مشاق الحرفة للرجل، فإن اعمال البيت وادارته ليس من الاعمال الخفيفة.
والواقع ان اعظم ما يؤخر المرأة العربية في عصرنا هو التقاليد، هذه التقاليد التي جعلت الزمخشري يقول في كتابه (غريب الحديث) : ان المرأة مبغوضة اذا مست شيئا افسدته. هذه الفكرة عن الارملة قد عمّت الامم القديمة وبلغت اوجها من الخسة والدنائة البشرية في الهند حين كانت الأرملة تحرق عقب وفاة زوجها.
وقصارى ما اقول ان معظمنا يعامل المرأة بحكم التعاليم السحرية القديمة، كان الاسلاف يمارسونها قبل عشرة الاف سنة. انهم كانوا يقولون عنها انها نجسة. والهدف غير شريف وهو استبعادها عن النشاط الاجتماعي والثقافي والانساني.
فنحن الرجال نحيا في المجتمع وهو بيتنا الكبير بكل مركباته التي تثير اذهاننا وتربينا وتحركنا الى التضحية والعظمة، هو مدرستنا هو جامعتنا. اما هي فتحيا في البيت ولا تزعم ان في البيت سعادتها. واني شخصيا لا احترم المرأة لانها جميلة سعيدة ولكن لانها حكيمة رشيدة. وهذا على فرض ان السعادة تغمر البيوت لان الواقع غير ذلك وهو ما يخبرك به كل زوج.
ولكن مشكلة البيت لا تعود مشكلة اذا نحن نظرنا للمرأة نظرة المساواة بالرجل بحيث تتعلم مثله وتكوّن شخصيتها مثله وتحترف اذا شاءت مثله وتدرس وتختبر حتى تتربى وتتطور مثله وتشترك في وظائف الدولة مثله. ومقامها الجديد هذا هو الذي يعين طراز البيت الذي تعيش فيه بحيث يتفق واهتماماتها الاخرى، فقد عممت القوة الكهربائية جميع اعمال البيت من طبخ وغسل وكنس وتبريد. فلا يكون هناك المشاق ما يحتاج الى ان تقصر الزوجة حياتها على المنزل.
اننا نجرم في حق المرأة حين نقيد ارادتها وحقوقها ونحرمها الوانا من النشاط الفكري يمكن لها ان تؤديه. كل ذلك محض استبداد وثقل التقاليد.
* مقتبس من كتاب المرأة ليست لعبة الرجل لمؤلفه سلامه موسى.