كثيرةٌ هي الأفكار اللامنطقية التي يؤمن بها الناس رغما عن مصادمتها للعقل والفطرة, ويزداد التمسك بتلك الأفكار الباطلة إذا كانت توافق هوى الفرد أو تعطيه مزية كجنس أو كشعب, وكذلك إذا كانت الفكرة ذات أصل ديني! وإذا اجتمعت هذه العناصر الثلاثة في فكرة ما أصبحت من القناعات الراسخات, وأصبح من العسير تغييرها أو حتى مناقشتها.
ومن تلك القناعات الباطلة عند عامة المسلمين نظرهم إلى المرأة باعتبارها مخلوقا أقل من الرجل, كائنا أدنى درجة أو درجات, ألسن “ناقصات عقل ودين؟”, و”لن يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة”، وكذلك باعتبارهن “كائنات مستعصيات على الإصلاح والاستقامة” ألسن “خلقن من ضلع أعوج”! فلا حل معهن إلا أن “نأخذهن على قدر عقولهن”، وفي عين الوقت لم يشفع نقصان عقلهن ولا هذه الفطرة المعوجة التي خُلقن عليها ليخفف من حسابهن، لا، فرغما عن ذلك هن كائنات شريرات يستحققن أن يكن “أكثر أهل النار”!
هذه هي الصورة المترسخة عند أكثر المسلمين, وانتقلت -مع تكرارها والتأكيد عليها ونسبتها إلى الدين- إلى المرأة كذلك, فأصبح كثير من النساء ينظرن إلى أنفسهن هذه النظرة.
أصل كل التصورات الباطلة الموجودة بيننا –نحن المسلمين- هو إخراج الله من المعادلة الدينية, والاعتماد على مجموعة من النصوص يُخرج منها بتصورات عجيبة، فإذا قمنا بإعادة الله إلى المعادلة فيكون هو رأسها وأصلها لاختلف الحال كلية، فهنا مثلاً “منظور ديني” لكائن ناقص العقل معوج الطبع, ومن ثم فإن السؤال البديهي الذي يجب طرحه هو: هل هذا “عيب تصنيع”؟ ألم يستطع الله الخلاق الحكيم أن يخلق مخلوقا “أكمل”؟
معاذ الله, فالله القدير خلق خلقا سليما قويما, وهو كما قال عن نفسه “أحسن كل شيء خلقه”, فخلقه ظاهر على هيئة الحسن, وهو أمرنا أن نقلب البصر فيه هل نرى فيه من اعوجاج وخلل!.
إذا فالمرأة ليس بها “عيوب تصنيع” –معاذ الله- وكل الأمر أن الله خلق المرأة على طبيعة غير طبيعة الرجل, وأمد كلاً منهما بمميزات خلقية تؤهله وتمكنه من أداء دوره المنوط به، ولكن الرجل لم يعجبه هذا، وأخذ يرمي المرأة بالنقص وقلة العقل –في مختلف المجتمعات وليس عند المسلمين فقط- لأنه تميز عنها بجانب القوة البدنية, ولم يهتم بتميزها عنه في أمور أخرى كثيرة، وعندما حاولت المرأة أن تحاكي الرجل لم يعجب هذا الرجل ونظر إليها باعتبارها مسخا.
ولو آمن الرجال أن المرأة كما خلقها الله على أفضل ما يكون لاختلف الحال كثيرا, ولوجه جهده إلى الانسجام والتوافق معها, بدلاً من أخذ مواقف عدائية منها. إن هناءة قلب الرجل و”سكنه” في أن يجد “أنثى” ينظر إليها باعتبارها شريكة الحياة, مساوية له، يخوضان الحياة سويا، بينما أكثر رجال مجتمعنا العربي يقهرون نساءهم، ويسيطرون عليهن سيطرة تامة, فهل جلب لهم هذا السعادة؟ لا بالطبع، لأن قلوبهم لم تنبض بالحب، ولن ينبض القلب بالحب لكائن يراه الإنسان أقل منه.
وبخصوص الأدلة التي أدت إلى هذه التصورات أقول: المستند الرئيس لهذه التصورات هو ”أحاديث للرسول”, وهذه الأحاديث ليست مختلقة, وإنما ذات أصل جرى تحريفه بالإضافة في مراحل نقله، وهذا ما خرجت به من نظري في الروايات بعد جمع كل الروايات المتعلقة بالمسألة والمقارنة بين ألفاظها ومحتواها لأخرج منها بتصور حول المسألة, هل هي ذات أصل ولكنها “حُرفت” عبر النقل ومن الرواة، أم هي مختلقة أصلا، ومن ثم نغض الطرف عنها؟.
ولنضرب مثلا بحديث “ناقصات عقل ودين”، أصل روايات هذا الحديث واقعة حدثت فعلا, ورواها النسائي في سننه عن جابر، الذي قال: “شَهِدْتُ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ ثُمَّ مَالَ وَمَضَى إِلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَمَرَهُنَّ بِتَقْوَى اللَّهِ وَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ حَثَّهُنَّ عَلَى طَاعَتِهِ ثُمَّ قَالَ تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سَفِلَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ فَجَعَلْنَ يَنْزِعْنَ قَلَائِدَهُنَّ وَأَقْرُطَهُنَّ وَخَوَاتِيمَهُنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ يَتَصَدَّقْنَ بِهِ” اهـ
فالرسول خطب في الرجال ثم ذهب ليعظ النساء لأنه رأى أنه لم يسمعهن وليأمرهن بالتصدق, وهذا ما قالت به رواية أخرى عند الدارمي في سننه: “سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ بَدَأَ بِالصَّلاَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ خَطَبَ، فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ فَأَتَاهُنَّ فَذَكَّرَهُنَّ وَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ وَبِلاَلٌ قَابِضٌ بِثَوْبِهِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَجِيءُ بِالْخُرْصِ وَالشَّىْءِ، ثُمَّ تُلْقِيهِ فِى ثَوْبِ بِلاَلٍ.” اهـ
فمحور الواقعة هو التصدق/ الحث على الإنفاق, وهو ما ركز عليه ابن عباس, حيث رأى أن التذكير والوعظ ليس فيه جديد فأجمله، وقريب من هذا ما رواه الدارمي في سننه عن جابر كذلك والذي “قَالَ: شَهِدْتُ الصَّلاَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى يَوْمِ عِيدٍ فَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئاً عَلَى بِلاَلٍ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ: تَصَدَّقْنَ، فَذَكَرَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِجهنم فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سَفِلَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لأَنَّكُنَّ تُفْشِينَ الشَّكَاءَ وَاللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، فَجَعَلْنَ يَأْخُذْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ وَأَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ يَطْرَحْنَهُ فِى ثَوْبِ بِلاَلٍ يَتَصَدَّقْنَ بِهِ.” اهـ
فهنا كذلك نجد أن الراوي إما لم يتثبت مما قاله الرسول بشأن جهنم، أو أنه رأى أنه ليس فيه شيئا جديدا يستحق الذكر، ومن ثم فالروايات تقول إن الرسول حث النساء على التصدق وخوّفهن من النار لأفعال يرتكبنها, وأنهن إذا استمررن في فعلها سيكن حطباً لجهنم، وليس أنهن مكتوب عليهن هذا، فهل عندما قال الله تعالى: “إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَطبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ” [الأنبياء 98], هل كان يعني هذا أن كل مشرك كافر هو في جهنم وأنه لن يؤمن, أم أنها فيمن كان هكذا حاله من الكفر والظلم واستمر عليه, بينما من آمن وعمل صالحا أصبح من أهل الجنة؟، فكذلك الحال مع النساء، إذا استمررن في فعل الطالح كن حطبا لجهنم، وإن أقلعن أصبحن من أهل الجنان.
إلا أن الحال اختلف كلية في الروايات الأخرى, فبدلاً من “أكثركن حطب جهنم”, وهي جملة موجهة إلى المخاطبات, تحولت في رواية البخاري:
“عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَأَهْلِ النَّار،ِ فَقُلْنَ وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ، قُلْنَ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ قُلْنَ بَلَى، قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا”
فأصبحت حكما عاماً على جنس النساء، وحكما صادرا عن وحي فلقد “أريهن” الرسول, ورؤيا الرسول وحي، ومن ثم فأكثر أهل النار من النساء، ثم زادت الرواية هنا الحديث عن نقصان عقل المرأة ونقصان دينها، وهو ما لم تذكره الروايات السابقة ولم تعرض له بأي شكل، وهو أمر غير مناسب بحال مع الموعظة، فمن المقبول الترهيب والتذكير بالأعمال السيئة التي يرتكبها الإنسان حتى يحاول تغيير ما به من خلال القيام بأعمال صالحة, إنما ما العلاقة بين الحث على التصدق وبين الحكم بأنهن ناقصات عقل ودين؟، إن هذا داعٍ كبير لأن أتمسك بما أفعل لأني قاصر، ومن ثم فهذه الرواية حدث فيها تحريفان: تحريف بالتغيير وتحريف بالزيادة.
قد يقول قائل: ولماذا تكون هذه الرواية هي المحرفة, لماذا لا تكون رواية جابر؟ أنت تأخذ الرواية التي تريد؟، نقول: أولاً رواية جابر وافقتها رواية ابن عباس, فهناك مساند لها، ثانياً: جابر يروي ما شهد, فلقد صرح أنه شهد الصلاة مع رسول الله, بينما اكتفى أبو سعيد الخدري بالحكاية أنه خرج رسول الله, ناهيك عن أنه نفسه لا يعرف إذا كان هذا حدث في أضحى أو فطر، ناهيك عن الرواية تقول إنه مر على النساء في ذهابه للمصلى, بينما كل الروايات تقول إن الواقعة حدثت بعد أن صلى وخطب في الرجال ثم تحول إلى النساء.
والنقطة المحورية التي تقضي على كل خلاف في المسألة هي مفردة “عقل”, فمفردة عقل التي ذكرتها الرواية لم تكن تُستعمل في ذلك الزمان بهذا المعنى, وإنما هي من نتاج فكر المعتزلة, الذي أكسبها مضامين جديدة عند تأسيسه منظومته الفكرية، فالقرآن لم يستخدم مفردة “عقل” كاسم مصدر, وإنما استخدم مشتقاتها الفعلية فيما يزيد عن أربعين موضعا, مشيرة إلى عملية فكرية يجريها الذهن, وبجوار هذه العملية هناك التفكر والتدبر والبصر.. الخ، ومن ثم فلم يكن “العقل” مستخدما كاسم جامع للعمليات التي تُجرى في ذهن الإنسان, وإنما كان يُستخدم مع: الدية, عقل فلان كذا أي ديته كذا.
ومن ثم فإذا ظهرت هذه المفردة بهذا الاستعمال المتأخر في رواية ما زائدة عن روايات أخرى وردت بدونها فإن الإنصاف يحكم بأن هذه المفردة مزيدة مدسوسة وليست من أصل الحديث، ومن ثم فلا مستند دينيا لمن يصمون المرأة بنقصان “العقل”، فإن وجد فهو راجع إلى المنزلة التي أنزلها المجتمع إياها والأدوار التي أوكلها إليها.