ما يحدث لهذا المخرج السينمائي بسبب فيلمه المثير، يحيلني على مسرحية عالمية اكتشف فيها بطلها أن زوجته خانته. وبدلا من أن يواجه زوجته الخائنة خوفا منها، صب جام غضبه على هرة تعيش معهما أمام مرأى ومسمع هذه الزوجة. وبدأ يرسل لها رسائل من خلال إهانة هذا الحيوان المغلوب على أمره بأنها هرة غير وفية وتقفز من النافذة في غيابه بحثا عن القطط المتسكعة في الخارج. ويقول لزوجته التي كانت تتابع كلامه بازدراء أنظري إلى هذا الحيوان الذي يقال عنه أليف كم هو مخل بأعراف هذا البيت ومخل بآداب هذا المجتمع.
فالذين يشهرون سيوفهم على نبيل عيوش، إنما يشهرونها على رجل تملكته الجرأة على أن يعري على جزء من الواقع نحن جميعا مسؤولون عنه وهو الظلم الذي لحق بالمرأة. وهنا أستحضر كذلك ما عاينته من قبل في يوم من أيام الشهر الفضيل الذي نحن على أبوابه، والله شاهد على ما أقول، ركبت الطائرة من الدار البيضاء إلى دمشق وكان معظم الراكبين من الفتيات من ذوي أعمار العقد الثاني، وما استرعى انتباهي أنه بمجرد دخولهن إلى الطائرة بدأن في نزع الجلباب المغربي عنهن "للإحماء" استعدادا للمأموريات التي تنتظرهن في سوريا ومنها إلى بلدان أخرى .ومن باب الفضول سألت إحداهن جلست بالصدفة إلى يميني عن هذا العدد المسافر دفعة واحدة ، وعن سر نزعهن للجلابيب، وما إذا كان هناك ملتقى رياضي في العاصمة دمشق؟
فجوابها كان صادما بالنسبة إلي، ولا ألومها على ذلك لأنها المسكينة ضحية، حينما كشفت لي عن بعض الحقائق وهي أن الجلباب استخدم في المطار كمظهر من مظاهر الاحتشام، وفي نفس الوقت يشكل جواز مرور كدليل طهر وبراءة لتسهيل مهمة سلطات المطار في ختم جوازاتهن، وأقسمت يمينها ـ وصدقتها ـ أن كل واحدة منهن وضعت في جوازها مقابلا نقديا عند لحظة ختم المغادرة، وإلا لعادت من حيث أتت. وطوال الرحلة كانت هناك أيضا امرأة مغربية محترمة، وبالمناسبة أدركت في لحظة امتعاض ويأس أنه ليس كل النساء عاهرات، وهي جالسة على يساري تستنكر المشهد وتستغفر الله العلي العظيم في هذا الشهر المبارك، وتدعو سبحانه وتعالى ألا يصيب الطائرة أي مكروه وأن نكمل رحلتنا بخير. فشعرت وقتها أنني بين شيطان غصبا عنه وبين امرأة طهرها من طهر الملائكة مما أعطاني الإحساس بالتوازن والأمل. وكانت بالفعل تلك المرأة النموذج الحقيقي للمرأة المغربية. أما الشيطان المجبر على أن يكون كذلك، فهو الاستثناء.
وفعلا ، وصلت الطائرة بخير لأن جل الراكبين ليسوا بالشياطين، بل كان الملائكة منا حاضرين ومنهم تلك المرأة الشريفة. فلا خوف فالخير في المغرب دائما ينتصر على الشر والبلد بلد الأولياء والصالحات وهن كثر. وفي مطار دمشق كانت شبكة المتاجرة في البشر في الاستقبال، وكان كل عنصر من عناصرها ماسك بلائحته ينادي بالأسماء ليتم فرزهن على مجموعات، وكل مجموعة تحمل اسم الماخور الذي سيحضنها. وكرهت في تلك اللحظة نفسي وأن يختم جوازي كمغربي من طرف السلطات السورية ، وكل نظرة أو ابتسامة في وجهي أقول في قرارة نفسي إنها تهكم و سخرية.
وحينما أروي هذه الواقعة، وغيرها كثير، إنما أريد أن أقول إن هذه الآفة موجودة ومتجذرة في في مجتمعنا وفي كل المجتمعات بدون استثناء حتى في تلك المجتمعات التي هي في أطهر أرض. ولا ينبغي أن نتنكر لهذا الواقع أو نخجل منه بالتستر عليه أو أن نتظاهر بالطهرانية من خلال التهجم على مخرج الفيلم السيد نبيل عيوش . فهذا المخرج لم يصور لنا مشهدا عن واقع يوجد في كوكب المريخ وألصقه بالمجتمع المغربي حتى يشهر كل واحد منا سيفه ضده. والسؤال المطروح من أين أتى السيد نبيل عيوش بهذه المشاهد المخجلة، هل يستطيع كل واحد منا أن ينفي بأنها غير موجودة ولا تنخر جزءا من كياننا؟ عبثا ما نقوم به وما نحن عليه من انهيار حاد في الأحكام والمغالطات. ونعتقد واهمين أن ذلك يمس بسمعة بلادنا. أرجو ألا نحبس هذه السمعة ونربطها بمسألة الجنس فقط، بل إن سمعتنا أطهر وأرقى من ذلك، فهي تكمن في وجود قيادة رشيدة وفي ديمقراطية فتية وواعدة وفي أوراش حقوق الإنسان المشهود لنا بها بين الأمم. كما تتجلى هذه السمعة في الحضور المتألق للمرأة المغربية في العديد من المحافل الدولية والرياضية، وفي التاريخ البطولي لهذه المرأة وما لعبته من أدوار طلائعية في مقاومة الاستعمار. وسمعتنا كذلك يجب صونها في ما ينبغي أن نقوم به من مجهودات مضاعفة لتحسين الظروف المعيشية والحياتية للمرأة قبل الرجل، وأيضا في محاربة الفساد بمفهومه الواسع.
أنا شخصيا أتفهم ردود الفعل الغاضبة هذه، وهي حالات انفعال ولا أريد أن أقول نفاقا. لكنها في نفس الوقت تترك الانطباع الذي يتكون عن الغاضبين وهو أنهم لا ينفون وجود ظاهرة الدعارة لكنهم يفضلون التستر عليها. ويعتبرون أن من يكشف عنها وكأنه ارتكب فاحشة، في حين أن الفاحشة متواجدة بين ظهرانينا مع الأسف الشديد.
وأنا أقر مع الجميع أن هناك خطأ جسيما في التبليغ ما كان عليه أن يكون بهذه القوة الصادمة، ولو أنها جزء من الحقيقة وليست كلها. وكأن الحقائق اليوم ينبغي أن تقال بطرق ملتوية، مع العلم أن ما نؤاخذ عليه المخرج عيوش من فيلم احتوى على صور خليعة وكلام سوقي هي نفس الصور وإن فتشت عليها ستجد أولئك المنتقدين له يتداولونها في هواتفهم عبر الوسائط الاجتماعية من قبيل "الواطساب" وغيره. وقد نجد أحيانا هذه الصور تعبر القارات بدون جوازات ولا تأشيرات. هل سنلوم فتياتنا اللائي أريد لهن أن تكونا بائعات الهوى أم سنلوم أنفسنا لأننا نساهم في نشر هذه الصورة السيئة. سنكون أنانيين إن ألقينا عليهن باللائمة. نحن جميعا مسؤولون إلى ما وصل إليه هذا الكائن المغلوب على أمره، بدءا من الدولة ومؤسساتها ومرورا بهيئات المجتمع المدني والقطاعات التربوية والإعلامية وصولا إلى الشارع والبيت والقائمين على تربية الأبناء أبا وأما على حد سواء.
واليوم حينما نريد أن نحاكم السيد نبيل عيوش، يجب أولا أن نحاكم أنفسنا وأن نحاكم الشيطان الذي يسكن في الفقيه والإمام الذي لا يخلو هو الآخر من زلاته المستور عنها، وأن نحاكم الحقوقي الذي يقاضي المخرج في الوقت الذي يقصر في حق المرأة التي تبيع جسدها لكي تموت موتا بطيئا وتتعرى لتشتري لأخيها النائم المدلل سروالا وقميصا وحذاء رياضيا من آخر صيحات الماركة المعروفة وعلبة سيجارة "مارلبورو" يوميا، ولكي تعيل والديها اللذان بلغ منهما الكبر عتيا. تموت هي من أجل أن يعيش الآخر.
وهذا الآخر هو ذاك البواب المفتول العضلات الواقف كالسارية على مدخل المرقص VIDEUR، وذاك النادل الذي يلسع صاحبتنا من حين لآخر من أجل بقشيش، وصاحب الطاكسي الذي يقيم الليل إلى حين الفجر حتى يؤذن هاتفه، وأصحاب السيارة الموشومة الذين يحرسون أمن جيوبهم. كم هو هذا العبء الثقيل الذي تتحمله تلك المسكينة عبء يختلط فيه الحلال بالحرام، تضحي بنفسها لتشتري أضحية العيد لأهلها المعوزين، وتمارس الجنس غير المشروع لتشتري حاجيات أهلها احتراما لطقوس و شرع الله في رمضان. فالعاهرة وإن فعلت ففي سويداء قلبها ذرة إيمان. فلا تظلموها لأنها لم تكفر حتى ولو أن الفقر كاد أن يكون كفرا. وفي المقابل لا يرحمها المجتمع. والكل يحاول أن يعلق على مشجبها رديلته.
وفرضا لو أنزلنا أقصى العقوبات على السيد نبيل عيوش كما يدعو البعض، فهل سيعني ذلك أننا سنقضي على هذه الآفة . يخطئ الكثير من يتوهم ذلك، فالعميد الحاج ثابت أعدم لما يزيد عن عشرين سنة، ولم تعدم معه الدعارة وبقيت لغاية الآن حية ترزق وستبقى كذلك في المغرب وفي غيره. وحينما اتخذ السيد مصطفى الخلفي وزير الاتصال قرارا بمنع الفيلم من العرض، فالأولى به وبصفته وزيرا ينتمي إلى تيار إسلامي أن يمنع الظاهرة المتفشية في المجتمع المغربي وأن يقطع ذابر وجدور أعرق مهنة في التاريخ. كفانا حلولا ترقيعية أو خرجات انتخابية، فالسرطان قد انتشر.
وما فائدة منع عرض فيلم في دور السينما المغربية؟ أمن أجل ألا يراه المغاربة، فعفوا نحن أدرى بواقعنا و أدرى بأن هذا الفيلم لا يعكس سوى زاوية منكسرة من مرآة لواقع مغربي مضيء وساطع يجب أن نعتز به. أما غيرنا فقد لا يفهم ذلك وهو معرض للتأثر بما يحمله الفيلم من لقطات. فحتى ذلك الذي لم يكن معنيا بهذا الفيلم، فإن قرار السلطات المغربية بالمنع قد يشده إلى مشاهدته، ونكون بذلك قد ساهمنا في الترويج له في الخارج من حيث لا ندري، لأن كل ممنوع مرغوب. ولولا هذه الحملة الشرسة لما كان لهذا الفيلم أن يأخذ حيزا أكثر مما يستحقه في الأصل.
ونحن هنا لا ندافع عن الدعارة أبدا أو نبحث لها عن مبررات. فهناك العديد من المغربيات يعشن في العوز والفقر المدقع لكن نفوسهن الأبية تأبى المساومة على شرفهن. وبالتالي فإن ما نريده أولا هو الدفاع عن كرامة المرأة وتوفير الحقوق لها لكي تعيش عيشة هنية وتموت راضية مرضية، وثانيا العمل على محاربة ظاهرة التحرش الذي تتعرض له المرأة في كل لحظة وحين في الشارع من طرف المارين ومطاردتها من مرتدي السيارات ومن رصيف إلى آخر، وثالثا دعوة الدوائر الحكومية، الإعلام والداخلية والأوقاف، إلى التصدي إلى الفضائيات التي تنقل أفلام الخلاعة التي أفسدت أخلاق أبنائنا وبناتنا لتنتقل العدوى إلى أبواب مدارسنا. فإذا كانت الدول الغربية كاسويسرا مثلا لا تسمح إلا بأربعين قناةTELERESEAUللبث التلفزي الرسمي، فما هذا الذي يمنع المغرب من اتخاذ خطوات مماثلة للحيلولة دون هذا التسيب الخطير الذي يستهدفنا في عاداتنا وتقاليدنا وعقيدتنا.
وقد كان هذا التسيب واضحا في افتتاح مهرجان موازين حيث أشاءت الظروف التي أعقبت قرار السيد وزير الإتصال بمنع الفيلم من العرض في المغرب ، أن تعانده لتضعه اليوم أمام امتحان عسير وحقيقي وهو امتحان كارثة المنصة . فإذا كان السيد الوزير قد أظهر صرامة في منع فيلم عيوش من العرض في دور السينما، يتوجب عليه أمام اللقطات المخزية التي ظهرت بها الحاجة "جينيفير لوبيز" على منصة السويسي والتي دخلت إلى كل البيوت عير القناة الثانية، أن يثبت للرأي العام المغربي نفس الصرامة باتخاذ أقصى العقوبات في حق تلك القناة باعتباره وزيرا وصيا على هذا القطاع. وإذا لم يقو على ذلك يفترض فيه أن يقدم استقالته لأنه لم يستطع أن يفرض سلطة الوصاية على قناة خدشت مشاعر المغاربة أكثر مما قد يتسبب فيه فيلم المخرج نبيل عيوش. وإذا لم يسارع إلى الاستقالة وبقي في منصبه سيترك لانطباع على أن الكرسي بالنسبة إليه أهم بكثير من المبدإ.
ونحن حينما ندعو إلى ذلك، فإننا نرفض أن نتموقع إلى جانب بعض الأحزاب التي تريد أن تستغل هذا الأمر ضد السيد الوزير وحزبه لأغراض ومزايدات انتخابية، من منطلق يقيننا أن تلك الأحزاب هي الأخرى لو كانت في نفس الوضعية التي يوجد عليها اليوم السيد مصطفى الخلفي لأبانت أيضا عن عجزها في التعاطي بالصرامة مع هذه الواقعة.
فهذه هي المعركة الحقيقية ولا يمكن أن نكذب على أنفسنا ونختزلها فقط في مواجهة فيلم نبيل عيوش ونلتزم الصمت عنها في مهرجان موازين، بل هي أكبر مما تتصورون. المعركة ينبغي أن توجه ضد ذلك الفقيه وأمثاله الذي اغتصب طفلة في بيت الله. وكان على إمام مسجد سلا في خطبة يوم الجمعة أن يستنكر هذا المنكر حيث الكل مجمع عليه قبل أن يستنكر فيلما قد نتفق معه أو لا قد نتفق. هذا هو الاتجاه الذي ينبغي التركيز عليه، بدلا من خوض المعارك ضد الطواحين.
فمشكلتنا أننا دائما نحلل بمنطق وعقلية ذكورية ونحصر الشرف والكرامة والدل والهوان في دعارة المرأة وليس في زنى الرجل. وأن هذا الأخير يحل له أن يعيث في الأرض وفي النسل فسادا ولا يسأل عنه، وأن المرأة إذا فعلت أقاموا الدنيا ولن يقعدوها. بعض الخليجيين يأتون إلى المغرب من كل فج عميق، وتعبد لهم بعض الدولارات الطريق إلى الفحشاء والمنكر ويترنحون في غرائزهم البهيمية وكأن الفساد هو فساد على المرأة وليس على الرجل. فيما يعلم الله أن ذلك الباكستاني والهندي الذي يشتغل لدى الأسر الخليجية إلى أي حد يفسد في النسل ويضاجع أهل البيت برضى صاحبته وانتقامها من الزوج المنشغل بشهواته في عواصم عالمية بلندن وبانكوك وغيرهما. فالدعارة واحدة، الفرق أن هناك من يتعاطى لها خلف الكواليس وأن هناك من يتعاطى لها بالمكشوف.
فالفيلم الذي أنتجه المخرج نبيل عيوش ينبغي أن ينظر إليه بمثابة صعقة كهربائية قد تعيد الحياة لجسم يحتضر ، وتشد الانتباه والهمم بمعالجة المسكوت عنه. وأتمنى أن انتقادات إمام المسجد أو شكاية ذلك الحقوقي أن تأخذ مجراها في اتجاه من يعنيهم الأمر بوضعية المرأة بعد أن تتحول رسائلهما إلى رسائل شبيهة لبطل المسرحية الذي كان يقصد زوجته من خلال هرته ولم يضرب تلك الهرة المسكينة. لذا، ليس المهم أن نضرب بالقوة على أيدي المخرج، المهم أن نضرب على أيدي الفساد والمفسدين، ونشكر السيد نبيل عيوش على لعب دور القطة.
وإليك أتوجه السيد عيوش بالقول إنه يجب عليك أولا أن تشكر الحاجة "جيفينر لوبيز" لأنها خففت عنك ظلم ذوي القربى، وثانيا لكي يشفع لك هذا المجتمع المزاجي، عليك أن تتدارك الأمور بإخراجك فيلما جديدا إما أن تتطرق فيه إلى الدور الطلائعي للمرأة المغربية في مقاومتها للاستعمار وهي مادة سينمائية دسمة تشهد عن تاريخ بطولي لهذه المرأة، أو فيلما آخر عن الرجل المغربي بعنوان "العيب اللي فيك" تتناول فيه بجرأتك موضوع الحيف والتعسف في حق المرأة وإهانتها في الشارع وفي الحقول الزراعية والوحدات الصناعية والخادمات في البيوت من ابتزاز جنسي مقابل السماح لها بلقمة العيش أو الشغل و الاستمرار فيه. ولو أقسيت على الرجل في هذا الفيلم فلا تخش لومة لائم لأن الشرف والكرامة عند العرب مرهونان بسلوكيات المرأة ، وأن الرجل مهما أساء فالقلم مرفوع عنه. غريب أمر هذه الأمة أن يسمح فيها للإبن ما لا يسمح للبنت. ولعل هذا التمييز هو من مخلفات أمة كانت تئد بناتها في الجاهلية. وبالرغم من مضي أربعة عشر قرنا عن مجيء الإسلام كرسالة سماوية رفعت الظلم عن المرأة ورفعت من شأنها، إلا أنه ما زال هناك بيننا من الناس من هو متمسك بما ورثه من عادات مقيتة ومتخلفة ومجحفة.
خطيئتك السيد نبيل عيوش أنك لم تفهم بعد بأننا شعب لا نحب أن نسمع إلا ما نريده أن يكون إطراء في حقنا. فيا ترى متى ستفهم ومتى سنتخلص نحن من هذه العقدة؟