المرأة عنصر هام من عناصر المجتمع، لذلك كان لا بد لأبي العلاء من أن يوليه اهتماماً كبيراً، ولقد اتهم قديماً وحديثاً بأنه كان عدواً للمرأة.. استناداً إلى بعض أشعاره التي نصح فيها الرجال بعدم تعليم النساء، وقد عُزي هذا العداء لحرمانه منها نتيجة عجزه وقبحه، لذلك انتقم منها قولاً.
ولا أستبعد أنا، أن يكون لهذا كلّه أثر في نفس أبي العلاء.. ولكنني أستنكر أن يعتبر ذلك أساساً لحملة أبي العلاء على المرأة في عصره.
إن أبا العلاء الثائر ما كان لينكر قدر المرأة في الحياة إطلاقاً، من أجل أنه حرم منها فقط، فهو في رثائه لأمه.. قد أظهر فضل المرأة الكبير الذي لا يمكن لأحد أن ينكره.
ولو أن النخيل شكير جسمي
ثناه حمل انعمك الجسام
كفاني ربها عن كل ري
إلى أن كدت أحسب في النعام
في قوله هذا، اعتراف مطلق بفضل المرأة كأم.. فقد غني بها عن كل شيء.. وهل المرأة بعد ذلك سوى أم؟
مما لا شك فيه أن أبا العلاء كان يعرف المعرفة كلها قيمة المرأة في الحياة.. وكان يدرك، أنها القسم الثاني من المجتمع، والذي لا يصلح بدونه.. إلا أنه.. لم يكن يجهل أن المرأة شأن الرجل.. يمكن أن تكون أداة فساد كبيرة.. وخاصة إذا ما استخدمها النظام لغاياته ومآربه.. والمرأة بعد هذا أضعف من الرجل وأكثر قابلية للاستسلام للفتن الجديدة.. وللإغراءات، وقد نظر إلى مجتمعه فهاله ما رآه من تفسخ المرأة.. هذا التفسخ الذي أراده الحكام. كان نتيجة حتمية لحشد الجواري والقيان اللواتي ملأن القصور وبيوت السادة.
فأين المرأة من هذه الدمى؟ وما قيمتها؟
غيرة الطبقة التجارية وحبها في التقرب من السلطة، جعلها تنفق على نسائها الكثير لكي تجعلهن صالحات، كسيدات صالونات،أي بكلمة مختصرة، قادرات على إرضاء رجال القصور، وبالتالي قادرات على تحقيق أغراض التجار لدى هؤلاء، وقد جهدت هذه الطبقة في تأمين القيان والجواري وتعليمها كل فنون (سافو) فانتقلت بذلك العدوى إلى الحرائر من النساء أيضاً، وتفشى بذلك نوع من الفسق والدعارة لم يشهد له مثيل في ظل الحكومات الأخرى المعاصرة، الترف.. والفتوحات الجديدة.. واستتباب الأمر للخليفة، وظهور الولاة واستقلالهم الباطني الذي جعل من كل وال ملكاً منفرداً بكل السلطات، وبالتالي حريصاً على أن لا تفوته من المتع متعة واحدة.
كل هذه الأشياء كرست النساء بشكل عام للمنادمة.. أو الغناء أو الرقص.. وبعد ذلك.. الفراش.. وخلقت في المجتمع العربي نوعاً من الانحلال لم يسلم منه حتى الرجال، وأضحت المرأة سلعة تباع وتشرى.. وألهية.. وفقدت في الواقع دورها الأساسي: دور الأم. كما خسر المجتمع جهدها ومساهمتها في العمل.
هذه المرأة بالذات، لا كل النساء، ومن خلال مجتمع الدول العربية حينذاك.. انتصب أبو العلاء لمناهضتها، وجعل منها موضع انتقاد لاذع وعنيف. فقد رآها بتلك الحال سبباً من أسباب التخلف، وأداة من أدوات السلطان، وسلاحاً خطيراً في يد الطغيان. فيها أصبح القسم الثاني من المجتمع مشلولاً، بل وعائقاً لكل تطور.
نقمة أبي العلاء إذن.. لم تكن ذاتية فحسب. بل كانت نقمة موضوعية، وهو، وإن أعلها حرباً شعواء على المرأة، فإنما قصد نساء بعينهن. واعتبرهن مصدر الغيّ والفساد، والخطر الأكبر على الناس، وعلى النضال، وإن كان في شعره قد عمم فالتعميم في ذلك الحين، وحتى في أيامنا هذه صفة لاصقة بالشعر العربي، بل وبالأدب العربي على الإطلاق.
ألا إن النساء حبال غيّ
بهن يضيع الشرف التليد
فوارس فتنة.. أعلام غي
لقينك بالأساور معلمات
وسام ما اقتنعن بحسن أصل
فجئنك بالخضاب موسمات
وشنّفن المسامع قائلات
وكلمن القلوب مكلمات
هكذا، وعلى ذلك المنوال، يتدفق أبو العلاء في نقده للمرأة، ولكن يظهر من شعره لكل لبيب أنه، وإن عمّ، فقد خصص.. وعنى فقط النساء اللواتي ذكرناهن.. أي المتبرجات.. وبنات اللذة، وطالبات الهوى، ونديمات السادة، لأن الصفات التي ذكرها ليست صفات المرأة العربية ككل، بل صفات تلك النسوة، دون غيرهن فقط. أما طلب أبو العلاء بعدم تعليم المرأة، فقد انطلق أبو العلاء من خشية تعرضها لحسد قريناتها من النساء، ولمعاداة الرجال وخوفهم من تفوقها عليهم، أو منعهم لها من نشر آثارها إذا كانت ذات مواهب خاصة، فالمرأة المتعلمة في مجتمعات ذلك العصر العبودي تخسر أكثر مما تربح في الواقع.
خاصة أن تعليم النساء كان قاصراً على الجواري!
فإن أنت عاشرت الكعاب فصادها
وحاول رضاها واحذرنّ غضابها
إذا كانت لك امرأة عجوز
فلا تأخذ بها أبداً كعابا
فإن كانت أقل بهاء وجه
فأجدر أن تكون أقل عابا
وإن هجر المجاور فاهجرنه
ولا تقذف حليلته بهجر
أحسن جواراً للفتاة وعدّها
أخت السماك على دنوِ الدار
ومع ذلك، فلم يكن قاسياً بطبع في نفسه، أو لحقد شخص، بل كانت قسوته قوة المؤدب الذي يريد للنساء دوراً آخر أكثر أهمية. فقد أرادن أن يساهمن في الإنتاج، وطالب بتدريبهن على الغزل والنسيج والخياطة، وأرادهن أيضاً أن يساهمن في المعركة، وإن كانت إرادته تلك قد ظهرت بشكل غير مباشر، أي بطريقة نفي فائدتهن، أثناء القتال..
لقد أرادهن أبو العلاء لإيجاد جيل أكثر صلاحاً، ورغب للمرأة أن تحافظ على إنسانيتها، فلا تكون أداة عبث ولو بيد القادرين ممن يملكون المال، لقد أراد أبو علاء من كل ذلك منح المرأة فرصة للاستقلال الاقتصادي الذي يمكن أن يحررها من استعباد الرجل لها، فالفقر والعوز يجعلان الإنسان واقعاً تحت رحمة الآخرين، ومتى تحرر الإنسان منهما، لم يتجاسر أحد على التحكم في مصيره. معلوم أن كون المرأة في المجتمعات المتخلفة عالة على الرجل، هو أحد أهم أسباب عبوديتها وسقوط منزلتها، في اللزوميات عدد كبير من الأشعار التي تدافع عن حقوق المرأة دفاعاً رائعاً، حتى يبدو أبو العلاء رائداً حقيقياً للحركات الأنثوية المعاصرة وأورد من تلك الأبيات مايلي:
قرانك ما بين النساء أذية
لهن فلا تحمل أذاه الحرائر
كره الجهول بناته وسليله
أجنى لما يغتاله من صهره
فلا تدنُ من جاهل آهلٍ
إذا قطعوا خمسهُ ما درى
أبى سيفه قتل أعدائه
وساف وليدته أو هرى
فلا يتزوج أخو الأربعين إلا مجربةً كهلة
(ساف: ضرب بالسيف. هرى: ضرب بالهراوة).
ومن الطبيعي أن أبا العلاء أراد للمرأة كل هذا ضمن إطار مركزها في ذلك الزمن، ذلك المركز الذي فرضته ظروف الإنتاج، وعلاقاته، أقل من مركز الرجل، ولم يكن لأبي العلاء أو سواه، أن يطرح مشكلة المرأة، بالطرح الذي نراه في القرن العشرين، والذي هو في كثير من البلدان، ما زال غير مختلف عن مثيله في العهود القديمة.
فلسن بدافعات يوم حرب
ولا في غارة متعشمات
فحمل مغازل النسوان أولى
بهن من اليراع مقلمات
فما عيب على الفتيات لحن
إذا قلن المراد مترجمات
وبعد هذا، فإن أبا العلاء لايرى أي بأس على فتاة عصره أن تخطئ في الصرف والنحو، وأن لا تحسن البديع والبيان والعروض، يكفيها أن تعبر عن أغراضها، ولكن ثمة علماً آخر يجب أن لا تجهله.
إذ عليها أن تتعلم كل ما يكون متمماً لعمل الرجل.. فيجب أن تكون عوناً له في هذه الحياة، تساعده في بيته، وتساعده في حقله، وتساعده في كثير من الأمور الأخرى التي لا بد لواحد من الزوجين أن يقوم بها، أو لا بد لهما من أن يقوما بها معاً، ولا عليها بعد ذلك من تلك التفاهات التي أريدت لها كيما تفقد إنسانيتها، وكيما تبقى عضواً أشل في المجتمع، وكيما تبقى لبنة في النظام الفاسد الذي أعلن أبو العلاء عليه حرباً عشواء.
علموهن الغزل والنسيج والرد
نَ وخلوا كتابة وقراءة
فصلاة الفتاة بالحمد والإخلاص
تجزى عن يونس.. وبراءة
تهتك الستر بالجلوس أمام الستر
إن غَنت القيان.. وراءه