قالت لي بصوتٍ عميق وحزين، كأنها لا تتحدث معي بل تتحدث مع نفسها، أو تتحدث مع شخص آخر لا أراه، ولكنني ورغم شرود نظراتها تابعت كلماتها التي شدتني لعالم آخر لم أكن أعرف عنه شيئاً. نظرت عبر النافذة الضيقة وقالت:
_ كنت أعتقد بأنني أعرف معنى التواضع لله عز وجل ولكنني وبعد كل هذه السنوات ولأول مرة أدرك ما معنى هذا التواضع، أدرك ما معنى الضعف لله تعالى وألا أكون سوى عبده بين يدي خالقي.
تناولت الملف الكبير، وأخرجت صور الأشعة الخاصة بها وقالت من جديد كأنها تتحدث لذلك الشخص الذي لا أراه، كان يمكن لأي شخص أن يشعر بالإهانة لأنها تتحدث دون النظر لي، ولكنني شعرت بعمق ما تريد قوله لذلك قررت أن أبقى بجانبها وأستمع، وكنت متأكدة بأنها لم تكن تتحدث معي بل وربما لو غادرت لن تلاحظ غيابي وستتابع الحديث، قالت من جديد:
_ أنظري لهذه الصور، لقد طلب مني الطبيب إجراء فحوصات لوجود كتلة ما في صدري. في صباح أحد الأيام وضعت يدي على صدري وشعرت بوجود تلك الكتلة، أسرعت للطبيب وأخبرني بأنه لابد من إجراء فحوصات للتأكد من طبيعة هذه الكتلة. إنتظرت لوقتٍ طويل بين مرضى آخرين يبدو على وجوههم القلق والتعب والخوف أيضاً، يسود الصمت، لا يتحدث أحد وكأن الجميع إتفق على الصمت لأن الكلام أصبح أصعب من يُقال. جلستُ أنا في زاويتي البعيدة أفكر بأولادي وبحياتي، ماذا لو كان لدي مرض خطير؟ ماذا سأفعل؟ من سيعتني بأولادي؟ لا يمكنني أن أعتمد على زوجي فهو لا يعرف شيء عن تربية الأولاد، ثم أنني أحب أولادي كثيراً، وربما بتلك اللحظات أدركت مدى حبي لهم وأنهم قطعة مني، فكيف سأفارقهم، حتى أنني أحببت الجنة بتلك اللحظة أكثر من قبل لأنه لا فراق بها.
نادت الممرضة أسمي، أسرعت بإتجاهها لندخل معاً لغرفة رمادية لون، سألتني أسئلة كثيرة، وأجبت دون تفكير، فكل تفكيري كان يدور حول تلك الأجهزة الضخمة برائحته الغريبة. أخبرتني كيفية وضع يدي وكيفية الوقوف وعدم التنفس، ثم وضعت صدري بين مربعين بلاستيكيين وضغطت بقوة، شعرت بألم شديد، وكان لابد أن أبقى دون حراك وألا أتنفس، إلتقطت عدة صور؛ سألتها عن حالتي فقالت لي بأنها لا تستطيع الإجابة. ثم إنتقلت لغرفة أخرى حيث كان هناك طبيب، كان لابد من إجراء فحص آخر، مرر الجهاز البارد على صدري، وإلتقط الصور، سألته إن كانت الأمور جيدة، لم يرد وقال لي بأن الطبيب سوف يخبرني حين ينتهي من كتابة التقرير. وقفت وسط الغرفة وحيدة مع الممرضة، قلت لها دون أن أستطيع منع دموعي:
_ أريد أن أصلي، هنا...
أعطتني شرشف أزرق من شراشف المستشفى، صليت وبكيت، ثم خرجت لأنتظر النتيجة. في لحظات الخوف تلك، ولحظات الغربة عن جسدي الذي لم أعد أعرفه، لحظات إنسلاخي عن واقعي كله وتقوقعي في عالم المرض، المرض فقط، أدركت معنى التواضع لله. إنه ذلك الإدراك العميق الأكيد بأنه الله فقط من يستطيع مساعدتي، ذلك الضعف الذي لا يعرف الخجل، ذلك الإحتياج الذي لا يخجل من الكلمات أو الدعاء حتى بحضور الغرباء هو التواضع لله تعالى.
صمتت وتابعت مراقبتها للنافذة، سألتها بشيء من الخجل:
_ وماذا كانت نتيجة الفحص؟
قالت وهي لا تزال تتحدث لذلك الشخص الغائب:
_ النتيجة هي: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أُجيب دعوة الداع إذا داعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون".
قالت ذلك ونهضت من مكانها قبل أن أتمكن من سؤالها من جديد، ولأول مرة نظرت لي قبل أن تغادر وقالت:
_ مهما كان مرضك ومهما كان خوفك، أعلمي أن الله معك، وأنه خلف كل قدر توجد حكمة إلهية، ولا تنسي أن تقولي وبكل مرة وحين كل لحظة خوف:" امن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء" ثم تواضعي، تواضعي لله تعالى بكل إيمانك وبكل وجودك الضعيف بهذا الكون؛ ثم لا تنسي أبداً: حتى لو أخبرك الطبيب أن صحتك جيدة، لا تنسي أبداً لحظات إنتظارك لنتيجة الفحوصات، وكيف أن الأشياء تأخذ أحجام أخرى، تتقزم أشياء وتتضخم أشياء، لا تنسي رؤيتك للحياة عبر لحظات المرض والخوف والضعف، لأن هذه الرؤية هي حقيقة الوجود وأننا نتحول لأجساد تخاف سريان الدماء بعروقها، بل تتحول أجسادنا لأعداء لنا، وأعلمي أن ما لايمرض بهذه الحياة هي الروح، الروح المطمئنة مع خالقها المستكينة لقضاءه وقدره، والمدركة بأنها عابرة سبيل في وجود يفنى بملكوت إلةٍ لا يفني.
غادرت بصمت، ولم أجد أي كلمات أخرى أقولها لها، فما قالته جعلني أصمت وأراقب النافذة الضيقة التي كانت تراقبها، ولأول مرة شعرت كم أن نافذة ضيقة بهذه الحجم يمكنها منح كل هذا النور، وفهمت حينها مع من كانت تتحدث ولماذا كانت تنظر عبر النافذة الضيقة.