كشفت نتائج أبحاث علماء التاريخ القديم، أن الإنسان عرف التدخين مع اكتشافه للنار والدخان المنبعث عن اشتعالها، بينما أكد علماء الآثار أن الرسوم التي عثروا عليها في الكهوف، تدل على أن التدخين عادة ترجع لقرون عرفها الإنسان من الدخان المتصاعد من حرائق غابات تنمو فيها أشجار التبغ، ثم أصبحت في وقت لاحق مرتبطة بدخان البخور الذي اعتاد عليه الناس مع ظهور الديانات القديمة، ولكن لم يعرف تماماً من كان يدخن عندئذ، هل الرجل أم المرأة ؟ أم كلاهما معاً؟ كما لم يعرف تماماً لماذا شرع الإنسان رجلاً كان أم امرأة في التدخين في ذلك الوقت المبكر!
لقد أصابتني الدهشة عند قراءتي مؤخرًا حول تدخين النساء في المجتمعات العربية، من كتاب «أطلس التبغ» والتي أطلقته جمعية السرطان الأميركية ومؤسسة الرئة العالمية حصرياً بطبعته الخامسة الجديدة والموسعة، وموقعه الإلكتروني، وذلك على هامش فعاليات الدورة 16 من المؤتمر الدولي لمكافحة التبغ وتعزيز الصحة الذي استضافته أبوظبي خلال الفترة من 17 إلى 21 مارس المنصرم..
والذي أشار الى أن نسبة مستخدمي الشيشة في الدول العربية آخذة في التزايد وأن نسبة متعاطي التبغ الذين استخدموا الشيشة في عام 2011 بلغت 53% من النساء! و34% من الرجال في إحدى الدول الخليجية فقط! ويتفق الكثيرون ان تدخين النساء في المجتمعات العربية ظاهرة مسكوت عنها.
وكانت الطبعة الرابعة من أطلس التبغ الذي أطلق من سنغافورة أكد أن ما يقرب من 20% من سكان العالم يدخنون السجائر تشمل حوالي 800 مليون رجل و200 مليون امرأة، وأن أكثر من 60 ألف فرد سنويا يلقى حتفه نتيجة للتدخين السلبي 75% من تلك الوفيات تقع بين النساء والأطفال.
وما أثير حول التدخين وسط بنات حواء لا يمكن إنكاره، رغم أن المرأة العربية تتستر عليه في أغلب الأحيان، خصوصاً في المجتمعات التقليدية المحافظة، لكنه يمارس علناً عند تجمع النساء في المناسبات المختلفة، ولقد رأيت بأم عيني كيف أن الظاهرة أخذت تتفشى في المجتمع، بل وفي كل الدول الخليجية، لأسباب عديدة، كالشعور بالوحدة والملل أو التباهي والمظهرية، أو تأكيد الذات وحجب شعور استبطاني بالنقص ومحاولة التعويض (compensation) عن الشعور بالنقص بلغة علم النفس، أو لأسباب وعلل أخرى مرضية أو غيرها.
وسواء أكان هذا أو ذلك، فلا سبيل لإنكار تفشي هذه الظاهرة في الخفاء وبين مجتمع الحريم المغلق.
ولكن الخروج بالتدخين إلى الشارع وفد إلى بلادنا مع دخول الشيشة، التي انتشرت في المقاهي انتشار النار في الهشيم، حيث تتبارى النساء من كل الجنسيات، العربية والأجنبية، جنباً إلى جنب مع الرجال في التدخين العلني، وصار الجلوس والتدخين داخل السيارة بقرب المقهى أمراً ملاحظاً ويثير الكثير من الأسئلة.
رب قائل إن تفشي تدخين المرأة سببه العنوسة أو الطلاق والهجر أو الشعور القاتل بالوحدة والظلم الاجتماعي، ويعتقد البعض منهن أن التدخين الجماعي يمثل نوعاً من المشاركة الوجدانية بوهم حل تلك المشكلات..
ولكن يبقى السؤال؛ هل حل التدخين أي مشكلة من تلك المشكلات؟ إن إثارة موضوع تدخين النساء لا ينبغي فصله عن انتشار التدخين في المجتمع، كخطر يهدد الصحة العامة واقتصاد الدولة، ولكن اللافت للنظر أن حظر التدخين في الأماكن العامة والمكاتب، دفع بأعداد كبيرة من الموظفين للخروج أثناء الدوام للتخفي بين الأزقة وردهات المكاتب لممارسة عادة التدخين الجماعي، والمرأة المدخنة خيارها عندما تحين اللحظة، هو التصرف تماماً كما يفعل الرجال أو التستر في أقرب دورات المياه! وهكذا يمكن الالتفاف حول قانون حظر التدخين في الأماكن العامة «وكأنك يا زيد ما غزيت»..
ويتحول الموضوع إلى حق حماية البيئة من الدخان الملوث للفضاء الخارجي، وما على المشرع إلا أن يبحث في أي تدابير أخرى لإنفاذ القانون. لعلي على ثقة أن التدخين يتعذر حظره بالقانون، ولكن يمكن عن طريق تكثيف الجهود للتعريف بمخاطره على الجميع والتعريف بأضراره على الصحة والمجتمع.
لقد أفزعني ما جاء في تقرير هيئة الصحة العالمية من أن الشركات المنتجة للتبغ تتبارى في استقطاب مزيد من الناس وتشجيعهم على التدخين، لضمان مزيد من الاستهلاك لمنتجاتها، وبالطبع فإن السوق الخليجية تعتبر سوقاً خصبة والأفضل في المنطقة.
ولا شك أن وكلاء هذه الشركات يقفون على طرفي نقيض من أي قرارات تصدرها السلطات للحد من التدخين، ويكتفون بالكتابة على ظهر علب السجائر عبارة «التدخين ضار بصحتكم»، وهي في اعتقادي ذات مغزى تهكمي لا أكثر.
وقد كشفت دراسات عديدة أن مخاطر الاعتياد على التدخين المنفرد أو الجماعي، تعتبر جسر العبور إلى تعاطي المواد المخدرة، وأن الاستطلاعات أثبتت أن 65% من المدمنات على تعاطي المخدرات كانت بدايتهن بالسيجارة، وهذا هو الخطر الأكبر؛ أن تتحول المرأة المدخنة للسجائر إلى مدمنة مخدرات.
ومعلوم أن من تعبر جسر التدخين إلى المخدرات تستحيل عليها العودة من حيث جاءت، لأنه للأسف طريق ذو اتجاه واحد، مما يدعوننا من خلال هذا المنبر إلى مطالبة الجمعيات الأهلية ذات النفع العام والاتحاد النسائي العام والجمعيات المنضوية تحت مظلته، بأن تمضي بتبنى تدابير إجرائية للحد من انتشار تدخين النساء، قبل أن يستفحل إلى ظاهرة تحظى بالاعتراف والقبول.