للجمال فضاءات لا متناهية وفق منظورنا له، الذي قد يبدو برؤية طفل يلهو قرب النهر، أو على شاطئ البحر، في ثنايا ورقة صفراء تتطاير على تراتيل نسيمات أيلول الرائع، أو عبر أجنحة غيمة تتهادى على صفحة سماء شتائية، وربما في قطرة ندى تتمايل على تويجات زهرة بهية... وهكذا إلى ما هنالك من مناظر هي أروع آيات الجمال في الحياة والطبيعة.
لكن آخر قد يرى الجمال من خلال امرأة ترفل بآخر صيحات الموضة بكل أبعادها، أو فتاة تختال غنجاً ودلالاً على شاكلة هذه أو تلك من فنانات عصر الصورة والجمال المُصنّع في استديوهات عالمية هدفها تسليع الإنسان بشكل عام، والمرأة بشكل خاص.
وهنا نحط رحالنا لخوض غمار هذا الموضوع بإنسانية أكثر مما هي في واقع الحال، وفي المنظور الاجتماعي العام، والذكوري الخاص. وحتى من منظار أنثوي تقليدي لدور المرأة ومهمتها في الحياة بشكل عام.
فالمرأة تساهم إلى حد كبير في اختزال دورها وأنوثتها إلى مجرد جمال ظاهري تتكفل به مساحيق وآخر صرعات الموضة وعمليات التجميل (شفط دهون، نفخ، تكبير أو تصغير،..إلخ) فتغدو ورقة استهلاك رابحة لدى الشركات التجارية وأصحاب الرساميل الذين لا همَّ لهم إلاَّ الربح عبر أية نافذة ولو على حساب كل ما هو إنساني يعترض طريقهم، إذ يلجؤون إلى وضع السياسات والبرامج والخطط التي تستهدف تلك الشرائح من النساء اللواتي لا يجدن أنفسهن بعيداً عن أسواق الموضة والأزياء وعمليات التجميل بمغرياتها وما تعرضه كل يوم.
ولا يغيب عن ذهننا ماهية تقييم المرأة والنظر إليها في مجتمع شرقي- ذكوري، على أنها ما خُلِقت إلاَّ لتلبية حاجة الرجل (كأداة متعة)، وحاجات المجتمع من خلال خدمته والحفاظ على النوع البشري.
وهي في أغلب الحالات تتعامل مع ذاتها من خلال هذا المنظور الضيق الذي لا يفسح المجال لإنسانيتها وعقلها، وإنما فقط لصورة يحب أن يراها الرجل وتلفت انتباهه. فتسعى جاهدة ومجْهَدَةً للوصول إلى تلك الحالة، مستنفدةً طاقاتها الذهنية والمالية للحفاظ على رشاقتها وجمالها، واتباع أحدث أساليب الريجيم وصفاته، إضافة إلى آخر صيحات الموضة والتجميل ولو كان ذلك على حساب أسرتها وفقرها، وإمكانية توفُّر ذلك أم لا، وقد تتبع سبلاً لا أخلاقية لمواكبة قريناتها(ولا شك أننا نسمع كثيراً من القصص عن هذا النوع من الفتيات).
هناك أم لثلاثة أطفال، وهي نفسها طالبة جامعية، لكن لا همَّ لها إلاَّ إنقاص وزنها لأن زوجها لا يحبها إلاَّ نحيفة، وإلاَّ..!؟
وأعتقد أن هذا ليس سوى وسيلة من الزوج لإلهائها عن كثير من القضايا التي قد تطوّر تفكيرها وشخصيتها، خصوصاً أنه أُرغم على دخولها الجامعة من والدها الذي تكفل بمصاريف دراستها. والمثير للدهشة أنها تنساق وراء رغباته متناسية مسؤولياتها تجاه أطفالها ودراستها وإنسانيتها، فهي دائمة التفكير والقلق والوقوف على الميزان خشية أن يزداد وزنها عن الحد المطلوب من قبل الزوج.
وأخرى قالت إنها قد تستدين أو تدخل جمعيات (مالية) حتى تقوم بعملية تجميل لإزالة التجاعيد التي قد تظهر، أو لتشذيب الأنف الذي يجب أن يكون مشابهاً لهذه أو تلك من فنانات عصر الاستعراض والصورة السريعة.
قديماً قالوا: (من لا تزينه عروقه، لا تزينه خروقه).
فهل وصل بنا الأمر حدَّ الكذب على أنفسنا بمسألة العمر، أو حتى المظهر الخارجي..؟
ثمَّ، ما هي الإمكانيات الفكرية والعقلية لنانسي أو هيفا حتى تصبحا قدوة لفتياتنا أو نسائنا عموماً..؟ وكيف تتقبل المرأة الإهانة من الزوج عندما يريدها على شاكلة فلانة من الفنانات، رافضاً بشكل صريح شخصيتها الحقيقية التي اختارها على أساسها، لكنه الآن يريدها نسخة من إحداهن فقط إرواءً لغرائزه المريضة والنهمة.
كيف تتصالح المرأة مع نفسها وتحترم ذاتها وفق هذا المنظور النسخي والممسوخ عندما تستجيب لرغبات زوج لا يتعامل معها شخصياً، وإنما مع صورة مشوهة اختارها خياله المريض ورغباته الموتورة.
في الماضي كان التفاخر بالعمر لأنه رمز الحكمة والعقل والخبرة، أما اليوم فإننا نهرب منه ونريد الاحتفاظ بشباب دائم آخذين دورنا ودور أبنائنا، متناسين أن الشباب هو شباب العقل والروح، لا هذا الجمال المزيف المرسوم بريشة مؤشر الربح والتقليد المزيف.
هي إذاً ثقافة التسليع والاستهلاك التي تختزل كيان المرأة وشخصيتها إلى مجرد صورة يتمُّ تشكيلها وفق نموذج تعتمده تلك الشركات الأخطبوطية حول العالم، وتنشره عبر كليبات الاستعراض والفن المبتذل، ليتمّ تسويقه في مجتمعات لا ترى في المرأة سوى مظهرها الخارجي فقط، وبأنها مجرد أداة متعة للنظر، فتُثير غرائز مكبوتة بحكم القيم والتقاليد لا أكثر ولا أقل.
فإلى أيّ حدٍّ يكون ذو فاعلية وحضور في الحياة العامة والخاصّة، ذلك البيت من الشعر الذي ما زال الكثيرون يرددونه:
ليس الجمال بأثواب تزيننا
إن الجمال جمال العلم والأدب