المهمة الأولى لسارة كانت الإقناع. أولا إقناع والد إحدى المغنيات الإيرانيات بأن يسمح لابنته بالمشاركة في المشروع، ثم إقناع المغنيات الفرنسيات بالعمل على أغاني ما قبل الثورة الإيرانية، وإقناع المغنية التونسية المتمردة (التي اشتهرت بمشاركتها في التظاهرات ضد بن علي في يناير ٢٠١١) بالصفة الثورية للمشروع. وأخيرا إقناع مجموعة من الموسيقيين في باريس وطهران بالتنسيق معا، وكان هذا الجزء الأسهل من المشروع.
الرقابة من الداخل
بدأت المشاكل الحقيقية عندما أخذت سارة تتحدى سلطة الرقابة : "كان هذا هدفنا الرئيسي، أي الدلالة على عمل الرقابة من الداخل وفي الوقت نفسه محاربتها"، يؤكد آيات نجفي الذي كان يعمل في المسرح الملتزم قبل أن ينتقل إلى الإخراج.
تحاول الكاميرا أن تتسلل إلى أقرب ما يمكنها من النظام. نشاهد سارة مكتسحة بالسواد من رأسها حتى قدميها وهي تدخل إلى وزارة الثقافة ثم نراها في المصعد وهي تضع بسرعة ميكروفونا داخل قميصها، وبلحظة تصبح الشاشة سوداء ولا نسمع إلا صوتها وصوت الموظفين. توجهت سارة على الأقل خمس مرات إلى الوزارة آملة في الحصول على إذن لحفل النساء الذي تنظمه، تلك هي لعبة النفاق التي تنم على عبثية النظام.
" كان علي أن أبقى مهذبة وهادئة، كنت أسألهم وهم يجيبون، حتى لو لم أكن أوافقهم الرأي كنت أقول لهم "نعم بكل تأكيد". لكن بعد ثلاث وأربع زيارات بكيت فعلا، فقد كان الأمر بغاية الصعوبة ولكني كنت استجمع قواي وأقول إن كل شيء ممكن، والمغنيات الإيرانيات قدمن لي العون في تلك المرحلة".
بعد تبديل ثيابها المعتادة الملونة والأنيقة بعباءة كئيبة توجهت بأسئلتها إلى رجل دين. فجاءت العلل خيالية لدرجة الفظاظة، لقد فسر بطريقة جادة قائلا:"إن تردد صوت المرأة يجب ألا يتعدى حدا معينا" مؤكدا أن هذا هو قول الله! هذا المشهد نجده أيضا في فيلم مهران تمدن الوثائقي الجميل " الإيراني" وهو عبارة عن جلسة مغلقة بين ملحد وأربعة رجال دين شيعة.
"كان الأمر رهيبا"، تتذكر سارة: "أنا معتادة على سماع خطاباتهم، فرجال الدين حضورهم قوي في المدارس والجامعات، ولكن هنا كان الأمر مرعبا لأن هذا الرجل كان يسمح لنفسه التكلم عن الموسيقى وصياغة القواعد في الوقت الذي لا يعرف شيئا عنها. كان ينظر إلى الموسيقى وكأنها شيء فيما هي فن ولكنه لا يعرف شيئا عن الفن". يتابع المخرج آيات قائلا:" بالنسبة لنا كان مهما أن يكون هذا المشهد في الفيلم، ففي إيران يعمل الفريقان على نكرانه وأردنا أن نظهر من خلاله أن المشكلة ليست رجل الدين وإنما الإيديولوجية التي ينتمي لها".
تكريم لأكبر الأصوات النسائية
الفيلم الوثائقي "نو لندز سونغ" (أرض بلا غناء) لا يستنكر فقط وضع غناء النساء فقط وإنما هو تكريم لأكبر المغنيات ما قبل الثورة اللواتي كن يغنين في الملاهي في طهران. نكتشف مثلا "دلكش" التي كانت تتجرأ في الستينيات على الغناء مرتدية فستانا ضيقا وفي يدها كأس صغير من الكحول، أو مثلا الرائعة "قمر الملوك وزيري الملقبة بملكة الموسيقى الفارسية التي كانت في العشرينيات من القرن الماضي تغني في "غراند أوتيل" في طهران. تقول سارة :" هؤلاء المغنيات العظيمات جزء من إرثنا الحضاري وفنانو اليوم الإيرانيون لم ينسوهم".
ترغب اليوم سارة نجفي إعادة تنظيم حفل آخر لمغنيات ولكنها تأخذ وقتها فهي لم ترتح بعد من مغامرتها والفيلم الوثائقي بدأ حياته للتو. ففي مهرجان أفلام العالم في مونتريال حصل " نو لندز سونغ" على جائزة أفضل فيلم وثائقي، وفي لوس أنجلس على جائزة الإخراج في مهرجان نور للأفلام الإيرانية كما تم عرضه مؤخرا في مهرجان كان السينمائي الدولي. ليس من عرض رسمي مقرر له في إيران ولكن يقول آيات نجفي مخرج الفيلم :" أتنمى أن تتم قرصنته وأن يباع في الخفاء، فهو فيلم موجه إلى الإيرانيين قبل كل شيء".