في إطار فعاليات ملتقى القاهرة للثقافات الأفريقية عقدت ندوة قدمت فيها المخرجة المسرحية أسماء الحسيني ورقة بحثية عن أحوال النساء في أفريقيا وانعكاساتها على الإبداع في مجالي الفنون والآداب، أكدت فيها أنه على الرغم من مرور عقود على استقلال دول القارة السمراء من المحتل الأوروبي، فإن شعوب تلك الدول مازالت تعاني من الآثار التي خلفها الاستعمار الأوروبي في جميع مناحي الحياة، سواء على المستوى الإنساني أو السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وأشارت إلى أن المرأة الأفريقية لا تعيش بمعزل عن مأساة القارة، فتاريخ المرأة في أفريقيا طويل مع المعاناة في شتي المجالات، من تدن في مجالات التعليم والصحة والاقتصاد، بالإضافة إلى تعرضها لأشكال العنف، على الرغم من تحملها أعباء الحياة القاسية، خاصة العنف المسلح الذي يؤدي إلى فقدان معيل الأسرة ويجعلها تتحمل أعباء الأسرة مادياً، وتمثل المرأة الافريقية نحو 60٪ من العمالة الحكومية مع أنها أساس الإنتاج والنمو في دول أفريقيا، فهي مستعبدة ومهمشة في معظم دول القارة، كما أنها تمثل أغلبية نسبة اللاجئين والمشردين من الحروب وهي أعلى نسبة عالمياً.
وتوضح أن معاناة المرأة الأفريقية لا تتوقف عند هذا الحد، بل توجد أشكال أخرى من المعاناة مثل الاغتصاب الجنسي والعنف البدني والختان وإجبار الفتيات الصغيرات على الزواج المبكر بكبار السن، كل هذه العوامل ولدت انكسارات نفسية وإحساساً مزمناً بالقهر، ونظرة يائسة إلى الحياة بالنسبة لمعظم النسوة في القارة الأفريقية.
وباستعراض نماذج من الأدب النسائي في أفريقيا، يلاحظ أن هناك تبايناً بين المنتج الأدبي والثقافي النسائي من دولة إلى أخرى، حسب ظروف الدولة واتصالها بالعالم الخارجي، كما أن الفنون والآداب في أفريقيا لا تقتصر على الأشكال المعروفة في الدول المتقدمة، فهناك كثير من الإبداعات في أفريقيا التي هي نتاج الفطرة والبيئة، وهي من إبداع المرأة، كما هي من إبداع الرجل.
ورغم عدم ظهور الأديبات النسائيات الأفريقيات بشكل بارز على المستوى العالمي، باستثناءات قليلة، مثل الأديبة الجنوب أفريقية نادين جرديمو، التي فازت بجائزة نوبل للأدب عام 1988، فهذا لا ينفي عدداً كبيراً من قصص التراث والأمثال الشعبية والمراعي والحرف اليدوية التي تشارك في إبداعها النساء في دول أفريقيا، وعلينا أن نتذكر أن التراث الشعبي في أفريقيا هو تراث شفهي غير مكتوب في معظم الدول الأفريقية، وبالتالي فإن كل القري والمناطق الأفريقية توجد فيها مبدعات وشاعرات، وأيضاً من يعرفن في غرب السودان بالحمامات اللواتي ينشدن الشعر ويحرضن على الثبات في الحروب والمواجهات، كما أن المرأة هي من تدفع الثمن الباهظ في النزاعات والحروب والمجاعات والأوبئة والنزوح والتشرد، الأمر الذي ينعكس على كتابات وإبداعات الأديبات الأفارقة.
الكاتبة السودانية هادية حسب الله عرضت ورقة بحثية بعنوان «المرايا المتحققة: الهوية في الكتابات النسائية، الكتابة النسائية السودانية نموذجاً»، تتناول الورقة الكتابة النسوية السودانية، حيث ترى الكاتبة أن الكتابات النسوية، ورغم تفوقها العام للتحرر، فإنها تتم في سياق إرث الذكورية الثقيل، فراحت ما بين قبول التأبيد في القهر والتحليق بالقيد داخل القفص، وما بين التحليق نحو فضاءات التحرر. ولأن المرأة مقهورة لا صوت سوى أناتها لقرون طوال، يصير من غير العدل أن تواجه قهراً مضاعفاً، من دون أن تنال حرية مضاعفة، والكتابة التحررية للمرأة تحرر من أغلالها ليس الخارجية فقط، بل حتى قيودها
الداخلية التي قيدتها بها ثقافة مجتمعاتها فصارت ندباً تشوه الروح، وظلت الثقافة الذكورية طوال العصور تهدف إلى إنكار الإبداع، وحتى العقل على المرأة ولخصت المرأة بأنها جسد بلا عقل، وان تسامحت معها فهي بعقل ناقص. وظلت المرأة في ثقافة العصور الماضية جسداً فقط قد يغري الرجل ويجذبه ويستدعيه بشرط أن يظل صامتاً، ويمكن له أن يوحي للكتاب الرجال بالكتابة عنه لكن بوصفه موضوعاً مثلما اشترط له أن يكون، فغالباً ما يتم وصف دقيق للجسد، شكله ثنياته تمايله طريقة مشيه، ولكن يظل متحدثاً عنه فقط، أخرس لا يمكنه الحديث ولا حتى يوجه إليه، فغالباً ما يكون الحديث موجهات إلى رجال آخرين، وهذا الصمت يلازم الجسد حتى في دوره المنصوص له، فمن المعيب أن تفصح المرأة عن حاجتها الجسدية أو عن شعورها باللذة مع زوجها، فجسد المرأة يجب أن يظل موضوعاً يملكه الرجل ويسيطر عليه وحده.
وتحتاج الكتابة التحررية امتلاك وعي يمكن الكاتبة من التعامل به وخلق علاقات إنسانية على أساسه، هذا الوعي أول ما يفرضه على المرأة هو عدم قبول وضعيتها المتدنية ويكسب تفكيرها القدرة على تمييز ما يجعلها تابعة ومقلدة، ويكشف لها ذلك التضليل الناعم الذي يساق إليها فيجعلها تجنح عن الفهم والتعقل ويسوقها لطريق حفرته الثقافة الذكورية السائدة منذ آلاف السنين بأن تكون خلف الرجل ولكن بامتلاك الوعي وممارسته تمتلك المرأة أهم شرط، ليس لكتابتها فحسب، بل لقيمة وجودها، الحرية.
والوعي بمقدورها هو وعي بالشروط الموضوعية، فإنه وعي بالذات ويتوسط الذات ولأجل الذات، ولهذا فإن الوعي خصوصاً وعي الشرط النسوي، وعي يرتبط بالهوية. وفي ما يتصل بموضوعنا يمكن فرز أربعة تصورات رئيسية عن الهوية، أولها تصور مغلق يستند إلى منطق الجوهرية الثابتة، وهو تصور تقليدي في ما يتصل بالنساء، أدى ويؤدي إلى الأيديولوجية الذكورية السائدة والمعتادة، حيث الفصل الحدي والكامل بين الأنوثة والذكورة من دون مشتركات إنسانية، والنظر إلى الأنوثة باعتبارها جوهراً ناقصاً يستدعي بالضرورة الوصايا والاستتباع، ومع تضعضع هذا التصور المغلق والتقليدي بفعل متغيرات الحداثة، جاهدت لاستمداد الحياة بالشطط والتطرف، مما أدى إلى التصور المليشياوي الداعشي عن الهوية، وهو تصور يذهب بالتقليدية السلفية إلى منتهاها، حيث المرأة ليست فتنة وحسب، وإنما شيطان إما يخضع خضوعاً كاملاً له مادياً ورمزياً أو استرقاقاً واستباحة. وفي منطقتنا العربية الإسلامية حيث يحتضر التقليدي من دون أن يبرز الحديث فإن الفضاء يسمح بتمدد التصور الداعشي البغيض، وغني عن القول إن هذا التصور لا يعادي تحرر النساء وكرامتهن وحسب، وإنما يضع حقهن في الحياة نفسه موضع التساؤل.
أما التصور الثالث للهوية فإنه كوزموبوليتي، يقوم على تفكيك الهوية باللاهوية، ورغم إيجابياته، في نقد التصورات المغلقة عن الهوية، فإنه وقع في التطرّف النقيض بإنكار الهوية مبدأ، ولأن هذا الإنكار غير واقعي وغير عملي عادة ما ينتهي إلى محاولات مراوغة ومختالة لتعميم هوية كوزموبوليتية هي في التحليل النهائي هوية رأس المال المعولم، أي الأمركة، النساء المقهورات على أساس هويتها النوعية فإن ادعاءات إنكار الهوية تفضي، إما إلى إنكار ايديولوجي لوضعية القهر أو محاولة لثلم الكفاح ضده. اما التصور الرابع الذي تتبناه الكاتبة ، فهو انفتاح ديمقراطي وإنساني للهوية، تصور يبني على جدل الخاص والعام، حيث العام الإنسانية، لا يلغي الخاص الأنوثة، والعكس صحيح وإذ يقطع هذا التصور الحدي والمغلق ويعترف بأن في كل ذكورة أنوثة وفي كل أنوثة ذكورة، وبينهما مشتركات إنسانية، فانه في الوقت ذاته يعترف بالفروق النوعية بين الأنوثة والذكورة وهي فروقات مشروطة تاريخياً وتتغير مع الزمن، ولكنها فروق قائمة وتشكل مصدر إثراء للحياة الإنسانية.
وترى الكاتبة إنه وبحكم أن تحرر النساء هو التحرر الأكثر جذرية في التاريخ الإنساني فإن تصور الهوية الأكثر تطابقاً مع تحرر النساء هو الأكثر انطباقاً مع الحقيقة والتقدم.
وتوصلت الكاتبة بناء على دراسة ملموسة لعدد من نماذج الكتابة النسائية في السودان إلى تمييز عدد من الاتجاهات، أولها كتابة الأقلية وتأبيد القهر، وهي كتابة نسوية إلا أنها ظلت تستبطن قهر الثقافة الذكورية.
ثانيها كتابة رفرفة الأقفاص وهي كتابة اختلاط الجرأة بالتوجهات وهي كتابة نسوية تاقت إلى التحرر، إلا أنها لم تمتلك مقومات النفسية والمفهومية والأسلوبية فانتهت إلى التحليلي داخل القفص. وثالثها كتابة نسوية تحررية، ترى الكاتبة أن التمييز المشار إليه تمييز أكاديمي مدرسي، يهدف إلى فرز الاتجاهات الرئيسية، ولكن في الواقع العملي غالباً ما تختلط كتابة التقليد مع نزعات تحررية بهذا القدر أو ذاك، فضلاً عن أن الكتابة التحررية نفسها تلتبس أحياناً مع بعض التمظهرات التقليدية، خصوصاً تلك التي تستدعيها احفورات ثقافية ولغة تشكلت في أتون عقود سحيقة من القهر الذكوري وفي التحليل فإن الكتابة النسائية في حد ذاتها ملمح تحرري.
المخرجة والكاتبة المسرحية المصرية رشا عبد المنعم قالت، البحث الذي عرضته خلال الملتقى حول جماليات كتابة المرأة في المسرح المصري، إن في كتاب «نساء يركضن مع الذئاب»، تحكي كلاريسا بنكولا عن المرأة الفراشة التي يأتي الزائرون من جميع النوعيات ليروها وهي ترقص بين جبال الصحراء الأمريكية العظمى، فتقول «واحدة من أشد النساء وحشية في البرية روحياً الهية حية – لا ماريبوسا الفراشة»، ثم تصف كيف يظل الكثيرون منتظرين ظهور هذه المرأة المدعوة الفراشة، وهم يحلمون بالجمال والرقة، لكن هؤلاء وبالضرورة يصدمون حينما تقفز فجأة ماريا ولجان، وهي ضخمة جداً وعجوز جداً يتدلي شعرها إلى الارض رمادياً بلون الحجر، وردفاها مثل سلطتين ضخمتين ممتلئتين بمكيالين»، انها تحجل، تقفز، تثب، ليس كأرنب ولكن بخطوات عميقة».
وفي مسرحية «نتوزاك شانج» عن الملونات اللاتي يفكرن في الانتحار، حينما يكتمل قوس قزح هناك سطر تقول المرأة الأرجوانية: ها هو ما عندي، قصائد، وركان كبيران، حلمتان ورديتان، والكثير جداً من الحب. وتشير المخرجة رشا عبد المنعم إلى أن ما يميز عمل النحاتة وكلام المرأة الأرجوانية والمرأة الفراشة هو ما يستحق أن يميز صيغة المرأة المبدعة، ذلك الإدراك لعظمة الروح وكسر التحمس لنوع واحد من الجمال، فالمرأة المبدعة بالضرورة ستجد في كتاباتها تلك الرؤية المغايرة للذات وللعالم، وتوضح عبد المنعم أنها حاولت رصد تلك الجماليات المغايرة عبر ثلاث مسرحيات لثلاث كاتبات ينتمين إلى هذا النوع الذي يكسر القوالب المكررة في الكتابة ويخلق مساحته الخاصة بآلياته الخاصة وهي مسرحية «الضفيرة» لنورا أمين، مسرحية «زوجة وتمثال وعميقة» للبني غريب، ومسرحية «نسيج السابحات» للكاتبة الفلسطينية عايدة نصر الله. وحاولت رشا عبد المنعم من خلال تلك النماذج استخلاص جماليات كتابة المرأة في تلك النصوص المسرحية مثل، معالجة الصراعات الحميمية بين المرأة والمرأة، الزوجة والعشيرة، الأم والابنة، والاستخدام المغاير للمجاز والتخلص من القوالب والمقاربات الذكورية، والتضامن مع النساء الأخريات، والاحتفاء بالجسد الأنثوي، والاحتفاء بالطبيعة الخلاقة.