تتسبّب النزاعات والحروب في هجرة أعداد متزايدة من سكان المناطق المنكوبة إلى ملاجئ تفتقر إلى أبسط الشروط الحياتية الإنسانية ، ومن بينها شُحّ المياه سواءً للشرب أو لأغراض الحياة الأخرى . وتزداد المحنة الإنسانية للاجئين ، حين تضطر مناطق اللجوء البديلة لاستقبال أعداد متزايدة تشكّل عبئاً ليست مؤهلة لاستيعابها ، ما يسبب عجزاً في تأمين متطلبات العيش الأولية ، بما في ذلك الموارد المائية الصالحة للشرب والعيش بكمياتٍ كافية تفي بالحدود الدنيا من كفاية العيش . وفي العراق وجد الملايين من العراقيين أنفسهم بلا مأوى أو سقوف مؤقتة، وسط أوضاع غاية في الصعوبة، نتيجة الظروف المؤسفة التي حدثت خلال الشهور الماضية ، إذ تسارعت الأحداث بنحو فاق كل تصوّر، بسبب تمدد الإرهاب التكفيري المتمثل بداعش . وزاد من معاناة النازحين وعرقلة جهود إغاثتهم، سوء التنظيم الذي تعاني منه البلاد على صعيد الدولة وأجهزتها والحياة السياسية عموماً ، ما تركهم في وضعٍ صعب ولا إنساني، حيث دفعتهم للعيش في ظل ظروف غير آمنة، يعانون من شح المياه والافتقار إلى المواد الغذائية ، وهي المعتمدة في إنتاجها على الماء ، مما فاقم من أزمة اللاجئين وتشديد معاناتهم .
إن الافتقار إلى المياه بشكل خاص يشكّل ،بحد ذاته ، حرماناً لأولوية حياتية ، يستحيل الحفاظ على سويّة إنسانية طبيعية ، بل إن انعدام المصادر المضمونة للموارد المائية ، يحول دون خلق بيئة للعيش والتطور ..
فالفجوة بين الاحتياطي المكفول من مصادر المياه ، والطلب عليه ، قد يخلق ظرفاً حرجاً ، ويؤدي إلى خطرٍ وجودي . وفي لحظة تحوّلٍ ، يمكن أن تُصبح المياه سبباً لتفجير صراعاتٍ وتؤدي إلى كوارث إنسانية، وحروب بين الأمم والبلدان . ومن هنا يمكن فهم نزوع " داعش " الإرهابي ، إلى التهديد بتدمير السدود والخزانات في مدينة الموصل والثرثار وغيرها من المناطق التي يسيطر عليها ، وهي من المصادر الأساسية للمياه التي تغذّي مناطق واسعة يسكنها ملايين العراقيين ..
المياه أو الإرهاب
وبسبب الأعمال الإرهابية وهيمنة داعش التكفيري على ثلث العراق ، وربما أكثر ، يقطن مدنها ملايين البشر ، اضطرت مئات الآلاف من النساء والرجال ، الأطفال والشيوخ على النزوح بعيداً عن مناطق سكناهم ، واللجوء إلى مخيماتٍ أو البقاء في شبه العراء ، في أماكن ليس فيها أبسط مقوّمات الحياة الأولية الطبيعية . إن الهجرة القسرية لآلاف النساء إلى مناطق مختلفة من العراق جعلهنّ تحت وطأة ظروف صحية واحتياجات إنسانية عاجلة ، قوامها خيم وغذاء ودواء واحتياجات خاصة .. ومَثَل هذا الوضع اللاإنساني ، من شأنه أن يخلق مشكلة اجتماعية حقيقية، يبين في جانبٍ منه عجز الدولة العراقية على تأمين حياة تحفظ لهؤلاء النسوة وأطفالهنّ كراماتهنّ ، مما دفع البعض منهنّ إلى الانتحار ، سواء من الإحساس بالمهانة أو اليأس أو بسبب وفاة أطفالهنّ جوعاً أو مرضاً أمام أنظارهنّ وعجزهنّ عن الحيلولة دون ذلك ، حتى وإن اقتضى توفير الغذاء أو علب الحليب الذي يكفل للأطفال ديمومة الحياة .
ومن بين أكثرهن تعاسة وحرماناً ، النساء المهجّرات من الأرامل والمطلّقات أو العوانس، وهنّ يُعتبرن بحق ودون مبالغة أكثر الفئات معاناة بين النازحين، حيث يجدن أنفسهنّ في خضم محنة أفضت بهنّ بعيدًا عن أماكن سكنهنّ ، ولأنّ كثرة منهنّ بلا معيل أصلاً . و معظمهنّ كُنّ في الأساس نهباً لشظف العيش وانعدام المورد المادي الثابت ، لقد اضطرت نازحات من انحدارات اجتماعية مختلفة ، بينهنّ ميسورات الحال ، إلى قبول ممارسة أعمال شاقّة لا تتناسب مع مؤهلاتهنّ وأوضاعهنّ الطبقية في الظروف الطبيعية ، وبعض هذه الاعمال قد تُصَنّف اجتماعياً من بين الأعمال المهينة .
دور النساء في توفير المياه
تتكفّل النساء النازحات بكل تفاصيل المعيشة اليومية في المخيمات ، ومن أصعبها توفير المياه والغذاء ، إضافة إلى المهام الأخرى التي يضطررنَ القيام بها . ما جعلهنَّ يعانينَ من شتّى أنواع العنف والإذلال. ففي المخيمات أو الملاجئ القسرية تضطر المرأة لجلب المياه وتخزينها من مسافات بعيدة، بحمل الأواني على رؤوسهنّ ، وقد يستغرق ذلك ساعات من يومهنَّ المرهق ..
ورغم ما تتكبده النساء من مشاقَّ وضياع وقتٍ ، لنقل المياه من مسافاتٍ نائية عن ملاجئهنّ وخزنها في الوسائل التي عفا عليها الزمن "بالدبّات والتنكات"، فإنها لا تكفي حتى لاستحمام أطفالهنّ ، وفي أحيان كثيرة تكون هذه المياه مالحة أو ملوّثة أو غير معالجة.
الموت يلاحق النازحات
تتعرّض نازحات كثيرات للتحرّش اللفظي أوالجسدي وحتى الاعتداء الجنسي لاشتراكهنَّ مع النازحين من الرجال بدورات المياه نفسها ، وغالباً ما يكون ذلك ليلاً ، مما يضطر العديد من النساء ممن يكنّ ضحية لمثل تلك الجرائم إلى الإقدام على إنهاء حياتهنّ بالانتحار أو إضرام النار في أجسادهنَّ خوفاً من الفضيحة والعار. وقد أوردت التقارير حالات أخرى من الانتحار التي تكون ضحيتها الأمهات، بسبب عجزهنّ عن توفير الماء الصحّي والدواء أو علب الحليب لأطفالهنّ ، وبيّنت هذه التقارير أنّ حالات الانتحار تصل إلى العشرات بين النازحات ولم تقتصر معاناة النساء على ذلك فقط، بل تشهد المخيّمات وأماكن الإيواء نشوب حرائق يذهب ضحيتها عوائل بكاملها ، بسبب استعمال النساء الطرق البدائية في عملية الطهي في خيام قابلة للاشتعال، ورغم هذا العبء الثقيل الذي تتحمّله النساء ، فإن النازحات لا يتمتّعنَ بأيّ دور في عملية صنع القرار بشأن إدارة أزمة المياه أو توفير الغذاء رغم تحملهنَّ معظم المهام المتصلة بهذه القضية، ما يعني الإمعان حتى في ظل الأوضاع المأساوية في إقصاء المرأة عن دائرة اتخاذ القرارات الخاصة بها ، لمصلحة صُنّاع القرار على حسابها، مستندين في هذا النهج إلى التقاليد والأعراف العشائرية التي تعدّ إشراك النساء خرقاً لتلك العادات والتقاليد البالية ..
تلوّث المياه وعواقبه على النازحات بسبب ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف في العراق تنتشر عن طريق المياه الملوّثة العديد من الأمراض والأوبئة ،مثل الكوليرا والتايفوئيد والتهاب الأمعاء والجرب والتقرّحات وحالات أخرى ،ويفاقم ذلك وصول هذه المياه عبر خزّانات "غير نظامية " تُسهم في تفشّي الأمراض والأوبئة وهي السبب في وفاة الأمهات والأطفال.
منذ سنوات بات معروفاً أن أنهار العراق أصبحت ملوّثة بمواد ضارّة مصدرها مياه الصرف الصحي، ومخلّفات المصانع، والأسمدة المستخدمة في الزراعة، فضلاً عن التلوث بالمواد الكيمياوية ومخلفات الحروب وجثث ضحايا الإرهاب المرماة في الأنهر. وهذه المخلفات تصل بطريقة مباشرة عبر مياه الشرب التي لم تخضع لعمليات التصفية أو عبر الخضراوات و الفواكه المزروعة في العراق أو البلدان المجاورة، وهي تتسبب في ارتفاع حالات إصابة النساء بالسرطان بشكل كارثي حيث أشار أحد التقارير الطبية المحلية والعالمية إلى وجود أكثر من 140 ألف عراقي حالياً مصابون بأمراض سرطانية وأورام خبيثة ، يموت منهم سنوياً نحو 7500 مريض.(تقرير المدير التنفيذي لبرنامج الصحة العالمية)، وتشير التقارير المذكورة الى ان خامس أكبر سبب لوفاة النساء في أنحاء العالم، هو تلوث المياه إذ تتسبب بوفاة أكثر من الإيدز أو مرض السكري أو سرطان الثدي.
كما لوحظ انتشار أمراض جديدة غير مكتشفة سابقا ولا اسم لها في منظمة الصحة العالمية، أُطلق عليها "حالات شائعة لأسباب ضائعة". وهي تهدد حياة السكان والحيوانات والكائنات البحرية في مناطق العراق ،وتتركز هذه الأمراض بين النازحين والنازحات بسبب استخدامهم هذه المياه للشرب ولطهي الطعام، وتؤثر السموم الناتجة عن التلوث بشكل كبير على صحة النساء في تلك المناطق، بينما يعاني منها السكان من غير النازحين بشكل أقل نظراً للحالة المادية والمعيشية المستقرة نسبياّ.
وكما تشير معظم الدراسات، إلى ان المواد الكيمياوية المخزنة في أجسام النساء تنتقل إلى أطفالهنَّ خلال فترة الحمل، أو في فترة الإرضاع، ويسبب بُطء النموّ العقلي والجسدي للطفل، وهذا مانراه جلياً على الاطفال من النازحين الذين يرضعون السموم مع الحليب من صدور أمهاتهم . وقد وصلت حالات الوفيات الى معدل طفل واحد من كل ثمانية أطفال بعمر سنة إلى خمس سنوات.
أدوار مُعلّقة ، شبه غائبة عن الحكومة العراقية والمنظمات الدولية ..
ومن الملفّات غياب دور ملموس للمنظمات الدولية رغم وجود العديد منها في العراق ، كذلك الامر بالنسبة الى وزارة الهجرة والمهجّرين وهيئة حقوق الإنسان . وقد ظلت الأوضاع التي تعاني منها النساء غير مقبولة والمساعدات التي تصل الى العوائل شحيحة ، وفي بعض الأحيان معدومة تماماً، لأسباب، منها عدم التنسيق وكذلك تصاعد وتيرة الازمة صعودا بوتائر غير متوقعة، مما أثر على ديموغرافية المدن وأنتج عدداً من المجمعات اللانظامية سكنت فيها آلاف الأسر النازحة متجاوزين على مناطق لا يتوافر فيها الحد الأدنى من متطلبات العيش .. ففي مدينة بغداد وحدها هنالك أكثر من 220 منطقة سكنية عشوائية تكونت بفعل حاجة النازحين الداخليين . أما في بقية المدن العراقية فمازال النازحون يعيشون على هامش المجتمع في مجمّعات عشوائية وأماكن معزولة . وتشهد البلاد اليوم وجود أكثر من مليونين ونصف المليون شخص في العراق غير آمنين بالقدر الكافي ،أي بمعدل 8.3% تقريباً من عدد السكان، وهم يعيشون في ظروف لا إنسانية، ولا يخفى على أحد أن أكثر من 75% من المتضررين هم من الاطفال والنساء وفقاً لإحصائيات المنظمات الدولية. وفي موجات النزوح الاخيرة، يشكّل عدد النازحات أكثر من نصف عدد السكان النازحين بنسبة قدرها 51% (ﻧﺷرة ﺣﻘﺎﺋﻖ واﻗﻊ اﻟﻧﺳﺎء ﻓﻲ اﻟﻌراق - اﻟﻧﺳﺎء اﻟﻧﺎزﺣﺎت واﻟﻧﺳﺎء ﻓﻲ ﻣﻧﺎطﻖ اﻟﻧزاع 2015).
وبعد مضي أكثر من سنة على نزوح العوائل من مدنها داخل العراق، مازال الكثير من العائلات المهجرة تتردّد في العودة إلى مدنها وبيوتها ، لأسباب طائفية ، وخوفاً من العنف والقتل والاغتيالات ،إضافة إلى التخريب وهدم البنى التحتية في مدنهم ، والتراجع الاقتصادي الذي ينعكس على أوضاعهم ، وفي مقدمة العوامل التي تعرقل عودة النازحين ، عدم خضوع مدنهم المحتلة وغير المحرّرة الى الحكومات المحلية التي يندرج ضمن أولويات مهامها توفير المياه وتنقيتها وإيصالها الى المنازل حتى في أطراف المدن.، هم في آخر المطاف من بني البشر، ولهم كل الحقوق ...