الأخلاق لا ترتبط باللباس وبالمظاهر، فالفجور والفساد والبغاء، كما الكرامة والصلاح والوقار والعفة والاستقامة، هي سلوكات وقيم مستقلة عن قميص الرجل وسرواله أو جلبابه، كما هي مستقلة عن تنورة المرأة وسروالها وجلبابها أو برقعها، فكثير من المحجبات والمنقبات يخفين بالأثواب فساد أخلاقهن وممارسة السرقة والنصب، وكثير من الرجال يتسترون باللحى ومسك الأوراد واللباس الأفغاني عن أفعالهم الدنيئة وسلوكاتهم الوحشية. فالأخلاق وسلوكات الرجال والنساء هي مسألة تربية مسؤولة ووعي اجتماعي ورقي ثقافي، وليست نتيجة للمظاهر وأشكال اللباس وأغلفة الأجساد.
بيد أن تطور أشكال اللباس يعكس تطور الثقافات والمجتمعات البشرية خاصة على مستوى الحقوق والحريات وأنماط التفكير والعيش، كما تشهد العديد من الأحداث المرتبطة بتطور لباس المرأة بالخصوص في عدة بلدان أن الأمر لم يكن بتلك السهولة والسلاسة التي نعتقدها، حيث كان الموضوع باستمرار حتى في المجتمعات الأوروبية التي راكمت مسارا اجتماعيا وثقافيا من التطور على مستوى الحقوق والحريات والمساواة، مثار نقاش وصراع قيمي وسياسي خاصة بين قوى التغيير والتحديث والمنظمات الحقوقية والتيارات السياسية المتنورة، وبين القوى المحافظة التي تأتي على رأسها الكنيسة والأحزاب الدينية.
سيكون أمرا مثيرا للغاية، مثلا، الإشارة إلى أنه خلال السنوات الأخيرة عاد إلى واجهة النقاش العمومي في فرنسا وخاصة في مدينة باريس موضوع حق النساء في ارتداء السراويل! فلم يحدث سوى في سنة2010 أن وافق مجلس مدينة باريس، بمبادرة من بعض نواب الأحزاب اليسارية، على تقديم طلب لولاية الأمن قصد إلغاء المرسوم والدورية - la loi du 26 Brumaire an IX- ، الصادرة سنة 1800، والتي تفرض على المرأة الراغبة في ارتداء سروال طويل طلب رخصة من ولاية الأمن!
ويعود التأخير في إلغاء هذا المرسوم الذي لا يسمح للبريسيات بارتداء السروال سوى عند سياقة الدراجة أو ركوب الخيل، رغم كونه موقوف التنفيذ عمليا نتيجة التطور الاجتماعي والثقافي الذي عرفه المجتمع الفرنسي، لكونه يرتبط ببعده الديني وبالإنجيل الذي يحرم تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال في اللباس، حيث كانت الكنيسة الكتوليكية تصر على احترام هذا المرسوم الأخلاقي، بل أنها استطاعت أن تستمر في ذلك إلى حدود ستينيات القرن العشرين حيث كان الرهبان يمنعون كل امرأة ترتدي السروال من ولوج الكنيسة وحضور طقس القربان أو طلب صكوك الغفران.
بل أن النائبات البرلمانيات الفرنسيات كن ممنوعات من حضور الجمعية الوطنية بلباس السروال حتى حدود الثمانينات من القرن العشرين، عندما استطاعت النائبة الشيوعية شانتال لوبلان فرض حريتها وخرق هذا التقليد.
وعرفت سنوات 2000 عدة أحداث دفعت بالتلميذات والطالبات الفرنسيات إلى العودة للباس "تنورة" في الثانويات والجامعات والأحياء بعد تزايد ظاهرة التحرش الجنسي واحتدام النقاش حول اللباس القصير الذي اعتبره البعض مصدر خطر بالنسبة للفتيات والنساء وعلامة على الاستعراض الجنسي. وهذا ما دفع بعدة جمعيات وتيارات إلى تخصيص يوم للاحتفاء بحرية اللباس تحت عنوان "يوم التنورة والاحترام"، حيث كانت المناسبة مواتية ليس للدفاع عن حرية اللباس وارتداء التنورة فقط، بل للقيام بحملات وتنظيم نقاشات تربوية وثقافية في المؤسسات وفي صفوف الشباب والطلبة والطالبات، تمحورت حول مواضيع العنف والمساواة وأخلاق وسلوك المواطنة والاحترام والتقدير المتبادل في فضاء المجتمع.
انطلاقا من هذا التوضيح، واستحضارا للأمثلة المذكورة، يتأكد أن النقاش الدائر هذه الأيام بالمغرب حول موضوع لباس النساء واختيار "التنورة" للدفاع عن حرية المرأة، والذي يأتي في سياق التضامن مع الفتاتين المغربيتين اللتين تعرضتا قبل بضعة أيام للعنف والتهجم من طرف مجموعة من الأشخاص المحسوبين على التيار السلفي أمام دكاكين سوق إنزكان، واللتان تم اعتقالهما وتحرير محاضر استماع إليهما ومتابعتهما من طرف النيابة العامة بتهمة الإخلال العلني بالحياء، فهذا الحادث والنقاش المرافق له يفصح عن أهميته البالغة في سياق التدافع، الذي يصل أحيانا إلى مستوى الصراع، القيمي والثقافي والقانوني الذي يعرفه المجتمع المغربي خلال السنوات الأخيرة، خصوصا بعد تزايد مطلب الحريات وتطوير القوانين وتحديث البنيات والدهنيات، في مقابل تنامي الأصوات المحافظة والمد السلفي والأصولي، ووصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى رئاسة الحكومة وتوليه وزارة العدل والحريات التي تسهر على تطبيق القوانين وحماية الحريات، والتي هي بصدد تقديم مشروع القانون الجنائي الجديد الذي أعدته قصد المصادقة عليه والعمل بمقتضياته.
فالسؤال الكبير الذي يثيره هذا الحادث الهام هو كيف تم التغاضي عن أعمال التهجم والتعنيف ومحاصرة الفتاتين من طرف مجموعة من الذكور في مكان الحادث، وقيامهم بأدوار أمنية ومهام ينظمها القانون، وبدل إنصاف الفتاتين ووضع الحد لمثل هذه السلوكات والتصرفات التي من شأنها أن تتطور إلى "دوريات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" تجوب الأسواق والأحياء والمداشر، تمت تزكية تصرف استبدادي ووصائي خارج عن القانون، ومتابعة الفتاتين بتهمة فضفاضة في سابقة من نوعها تعتبر بكل تأكيد دليلا على النكوص القيمي والحقوقي الذي يعرفه المغرب خلال السنوات الأخيرة.
وإذا توقفنا عند الفصل 483 من القانون الجنائي المغربي الذي تتابع بموجبه الفتاتين فهو يتحدث عن ارتكاب إخلال علني بالحياء، وذلك بالعري المتعمد أو بالبذاءة في الإشارات أو الأفعال . وواضح أن ارتداء فتاة لسروال أو تنورة، في إحدى شوارع أو أسواق المدن المغربية في سنة 2015، ليس نهائيا عريا متعمدا ولا بذاءة في الأفعال، وهو لباس لا يمكن أن يخدش حياء إلا أشخاص غير أسوياء أو متشبعين بأفكار وأحكام شاذة ومتخلفة عن روح العصر والواقع المغربي اليوم.
في الأخير، يجدر التذكير بأن هذه التهم الفضفاضة لا يمكن تحديدها بمقاييس ولا معايير موحدة ومحددة، ومفهوم الحياء العام هو نسبي يتغير حسب الأشخاص والفئات الاجتماعية والأماكن والأزمنة، إضافة إلى أنه ليس من حق أي طرف أو هيئة تأويل طريقة اللباس وتكييفها لتصير جريمة