الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

التونسية حفيظة قارة بيبان :الكتابة النسائية المعاصرة بين عراء الذات وعزائها

  • 1/2
  • 2/2

محمد معتصم - تونس - " وكالة أخبار المرأة "

حفيظة قارة بيبان كاتبة تونسية تَكتب في أشكال تعبيرية متعددة بذات الحماس والرؤية الجمالية والفنية والموقف الأدبي والفكري والاجتماعي، وقد حصلت روايتها الأولى «دروب الفرار» على جائزتين هما: جائزة كومار وجائزة الكريديف، كما حصلت روايتها الجديدة «العراء» (نقوش عربية، 2012) على جائزة «زبيدة بشير للإبداع الأدبي» عن مؤسسة الكريديف مرة أخرى. كل ذلك يؤكد أن الكاتبة تكتب بوعي جمالي وفني أولا وبحضور قوي وفهم للسياق التاريخي الذي تمر به الأمة العربية وللمسارات المتحولة للمجتمع التونسي والمجتمعات العربية.
في الرواية الجديدة «العراء» تكتب حفيظة قارة بيبان عن الحب، وهو حب من نوع خاص، حب مستحيل من جهة بين شخصية الشاعر الفلسطيني المغترب والمناضل غسان سلمان وبين الكاتبة الروائية التونسية دجلة العامري التي وقعت في شرك الحب من قوة شعر الشاعر أولا قبل اللقاء الصدفة في معرض الكتاب. إنها قصة حب مستحيلة لوجود موانع تحبسها عن الظهور والإعلان عن نفسها على الملأ، فالعامري زوجة لحسام وأم لطفلين (سناء وعلي)، وتكتب عن الكتابة كملاذ للذات في حالات الهشاشة والضعف الإنساني، وعن الكتابة كداء عضال لا يمكن الفكاك من كماشته، لأنها تسلب الكاتبة (والكاتب عموما) كل طاقاته الجسدية والروحية والفكرية وتشغلها عن الحياة ومتعها وخيراتها وجمالها، فتحول الكائن الحي إلى «كائن استعاري» لا وجود حقيقيا له سوى في «سرير الورق» الأبيض. وتكتب عن الجسد، الذي سنخصص له هذه الدراسة، ليس كموضوع إثارة وإغراء كما في كثير من الكتابات الروائية التي يكتبها الرجل أو المرأة على حد سواء، أو كاتجاه نسوي في الكتابة يدفع طاقة الكتابة بالكشف عن طاقات الجسد الأنثوي الخبيئة، كي تكون كتابة فيها جرأة تكسر القيود التي يراها هذا التيار في الكتابة النسائية ثورة ستؤدي حتما إلى الاعتراف بحق الجسد الأنثوي في التعبير عن ذاته من قِبَلِ المعني الأول بالأمر: المرأة، وليس الرجل الذي يراه هذا التيار من الكتابة يتضمن أحكام قيمة تحول جسد المرأة إلى سلعة وموضوع شهوة ومتعة بلا تاريخ وبلا وظيفة اجتماعية وفكرية. وقد رصدت الكاتبة الجسد الأنثوي في تقابل مرايا، في حال قوته وعنفوانه وكماله وسحره، وفي حال ضعفه وهزاله وفتوره واضمحلال تأثيره وإثارته.
ليست رواية «العراء» مجرد تاريخ الجسد الأنثوي مع المرض الخبيث: السرطان، أو أرض قاحلة تشقق طينها كما توحي بذلك صورة الغلاف، بل هي أيضا تاريخ القضية الفلسطينية، وتاريخ الاغتراب والتيه العربي الجديد، أو كما سبقت الإشارة في موضع آخر، تاريخ «الدياسبورا» العربية والشتات في أرض الله الواسعة. إنها رواية للتراجيديا الفلسطينية وعبرها تراجيديا العربي اليوم، العربي الذي لم يتمكن بعد من صياغة سؤال وجوده ومصيره سؤالا دقيقا وحقيقياً.
وهي رواية كتبت بوعي جمالي يقظ وحاد مدرك للمتغيرات الفكرية والمرجعية الثقافية للكتابة السردية المعاصرة. منها؛ الرواية التي تكتبها العامري ضمن الرواية، فتحضر الرواية في متخيل الرواية، وسابقة لأوانها، في تجربة فريدة تتحول فيها الكتابة السير ذاتية إلى خطاب الذات، بمعنى كتابة ذات الشخصية الروائية المتخيلة، في شبه تطابق أو التباس وتداخل بين المؤلف وشخصيته، أو في حال تقمص الشخصية الروائية لذات المؤلف.
وأيضا عندما تورد الكاتبة أسماء أعلام التقت بهم العامري في ندوات عربية مثل حديثها عن الكاتب والناقد المفكر المصري محمود أمين العالم، فإن هذا النوع من التقمص يقلص المسافة الفاصلة بين المؤلفة (الكاتب الموضوعي) والشخصية الروائية (المتخَيَّلة)، لكنه يمنح السرد حميمة خاصة وتفاعلا حيويا بينه وبين القارئ، خاصة أن القارئ غالبا ما يسقط ذاته على الكتابات الذاتية، فيحدث التأثير والتأثر الإيجابي وتكتمل بذلك دائرة الاستقبال وينتفي الغموض الذي يؤدي حتما إلى «التأويل».
ورواية بيبان لا تتطلب تأويلا من القارئ، لأنها تصرح بموقفها دون مواربة، وهو ما سيؤثر على خصوصية «السارد» وإن تم الحفاظ على وظائفه في نقل الأخبار وترتيب الوقائع ووصف الشخصيات، إلخ. وهو ما سيؤثر على السرد، الذي يعلن عن ذاته في محكيين يتناوبان على السرد.
الأول هو محكي الروائية التونسية دجلة العامري، في الرواية؛ ويتوزع على خمس مستويات/ متواليات محكية، وهي: 1: الالتزام الأسري (حسام وسناء وعلي)، 2: شهوة الكتابة (كتابة رواية «العراء»)، 3: الحب الدفين المستحيل (العلاقة الملتبسة بغسان سلمان)، 4: هيض الجسد (السرطان)، 5: حديث «الجثة» (الحديث من وراء غلالة الموت).
والثاني هو محكي الشاعر والمناضل الفلسطيني غسان سلمان؛ ويتوزع على ثلاث مستويات، هي: 1: الحب الدفين المستحيل (العلاقة الملتبسة بدجلة العامري»)، 2: الخروج الأول (استحضار الأم والطفولة)، 3: الخروج الثاني (من بيروت إلى تونس، ثم الاعتداء).
وفي المحكيين الكبيرين تتنوع المحكيات ويتبادل الساردان الأدوار ويتناوبان على تشكيل الصيغة النهائية للخطاب الروائي في رواية «العراء»، لكن تبقى صفة الحميمية مهيمنة على السارد مما يدرج رواية بيبان الجديدة ضمن خطاب الذات وكتابة الذات التي تسعى إلى تقويض الأغلال التي تقيد مفهوم الكتابة الذاتية في مفهوم «السيرة الذاتية».
الكتابة والجسد الأنثوي:
«منذ متى لم أر حسام بهذه الحماسة وهذا المرح؟ المرح الذي أحببت في البطل الرياضي، حامل حكمة أثينا التي تمجد الجسد وترعاه ليسلم العقل وترقى الروح. ولكني نسيت الحكمة. عنها انشغلت. وما انتبه غرور الروح لجدواها، إلا بعد فوات الأوان» ص (166).
في هذا المجتزأ السردي المنتقى من رواية «العراء» هنالك كلمات مفاتيح لفهم الخطاب الروائي وإدراك مقاصد الرسالة الجمالية والأدبية والفكرية المتضمنة في القصة، والتي يمكن جمعها وتأليفها في صيغ متعددة من بينها الصيغة الآتية: «لا تنس حكمة الجسد، كي تنعم بالمرح، قبل فوات الأوان». والخطاب موجه هنا لفئة الكاتبات والكتاب، الذين ينسون ويهملون «ثقافة أجسادهم فيستهلكونها من أجل نقطة ضوء تلتمع في أذهانهم أو في نفوسهم فيركضون خلفها غافلين عن الجسد وحاجاته، وليس بالضرورة أن تكون الحاجات هاهنا الطعام ونداء الغريزة وهما أساسيان، بل حاجات الجسد من العناية الرياضة والنظافة والتجميل باللباس والحلي. فالسارد (ة) في الرواية تتحسر على إهمالها جسدها وحرمانه من حقه حتى في التجمل والتزين بالحلي، وهو ما تذهب إليه العديد من كاتبات وناشطات في حقول معرفية وميدانية خاصة من المجتمع المدني، تقول مثلا: «المرة الوحيدة التي صالحت فيها أنوثتي وأهديتها حليا مذهبا، دمعة من الفيروز المحفوف بالجمان. استوقفتني الدمعة تتلألأ على جيد المرمر، ترمقني من بلور الواجهة الساطعة الأضواء. دلفت إلى الغازة الأنيقة ، كطفلة راقتها لعبة، طلبتها. قدمت لي، تترقرق بحزنها البراق في سلسلة الذهب الرفيعة. كانت المرة الوحيدة! ولكني ضيعت الدمعة المذهبة، هدية الأنوثة الوحيدة التي اشتريتها -لأول مرة- ككل النساء، وأهديتها لهذا الجسد!» ص (114).
الكتابة عن الجسد عامة أو الكتابة عن الأنوثة خاصة موضوعة مركزية في الكتابة النسائية المعاصرة، ففي بعض الكتابات، كما سبق وأشرنا على ذلك، يُعتبر الاهتمام بالأنوثة دعوة مبطنة أو لا واعية من المرأة الكاتبة في ترسيخ كينونتها في العبودية الذكورية وفي أغلال المجتمع واستغلاله لها ولجسدها أبشع استغلال ومتاجرة في محنتها. لذلك تدعو المرأة الكاتبة إلى رفض كل ما له علاقة بالمرأة الجسد والمرأة الخادمة ربة بيت ومربية وزوجة خاضعة ذليلة ومطيعة وتدعوها إلى رفض حتى طبيعة تكوينها كأم ولود، لأن كل تلك المظاهر يستغلها الرجل وبالتالي المجتمع أبشع استغلال. ذلك الذي حددته ماريان لكونت في ثلاثة مستويات: المستوى الاجتماعي والمجتمعي (الحمل والإنجاب والتربية)، والمستوى الجنسي (الجسد السلعة)، وعلى المستوى الأسطوري (المرأة التي تتحمل كل خطايا العالم: الخطيئة الأولى).

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى