تسير في الطرقات. تجوب المُدن.. شمالاً وجنوباً. تُدون ما تشاهده. تكتب عن الحرب، عن الإنسان، عن المرأة، عن الحب. ليس لديها طقس محدد لكتابة الشعر. بإمكانها أن تجلس فجأة علي أحد الأرصفة كي تنزف قصيدة. تسترجع كل ما عاشته في السودان، وتبوح به في مصر. لا تطرح نفسها للعامة كشاعرة، رغم أنها مثلت الخرطوم في ملتقي (شعراء الوطن الأكبر) الذي نظمته الرابطة المصرية (حفنة طمي) عام 2013. هي السودانية شاهيناز جمال، التي عَرفت نفسها في إحدي قصائدها قائلة: “أنا ظل امرأة/ تؤمن بالرب/ وتحلم بشمس/ وسنبلة/ وطفلات دون كذب”.
لها ديوان واحد، هو (لون مشاكس يصلح للغواية)، لا تعرف في أي دار نشر، سوف تطبعه، لكنها حسمت أمرها تجاهه: “لا أفكر في العودة إلي السودان، هناك لا أستطيع الكتابة أو التعبير، سأنشر الديوان في القاهرة قبل أن أغادرها إلي دبي خلال أشهر. علي أي حال، هذا لا يشكل لي أزمة، أنشر كل قصائدي علي مواقع التواصل الاجتماعي، وأتفاعل مع الناس مباشرة، لذلك لقبوني بالشاعرة، لكنني أخاف من ذلك، أن أكون معروفة. أكتب الشعر منذ عشرين عاماً.. طيلة هذه الفترة، لم أستطع التخلص من رهبة الكتابة، والكتاب. لا أريد أن أخاطر، أن أنشر ديواناً، أندم عليه بعد عمر.. لا يهمني كم ديواناً سأكتبه، يكفيني ديوان واحد، أعترف به، كطفل فرحت به أمه، لأنه وُلد معافي، وسليما”.
“اخترق ذاتك/ لا تحترق وحدك لتُضيء/ كُن قاب صمتين أو أكثر/ هذا أوان البوح/ ستتبعك المدينة مثل ظلك.. يا غريب/ وترقد الطرقات خلف نعشك/ شاهدة علي موات اللغة/ وترتد الأزقة عن عهرها/ فتوضأ البحر وتصليك”. توجهها شاهيناز إلي كل من يعاني الغربة. وما أكثرهم. تري أن الغربة ليست مرتبطة بوجودك خارج الوطن، من الممكن أن تشعر بها في أعين المارة، حين يرمقونك بحيرة لكونك أنثي، أو لأنك تملك ملامح مغايرة عنهم. تتذكر: “عانيت الاضطهاد، مثل كل نساء بلادي. في البيت، في الجامعة، في الشارع، كانوا يفرضون علينا قوانينهم: كيف نعيش، وماذا نرتدي”.
في قصيدة (جلد امرأة آيل للسقوط) تطرقت شاهيناز إلي أكثر ما تعاني منه المرأة في السودان، وهو التحرش: “تركض خائفة مذعورة/ من تلك الأيدي المسعورة/ مختبئة وهي المجلوبة/ في هذه الحانة ومصلوبة/ الجسد العاري الواهن.. أتراهن؟/ من كان يجادل باسم الكاهن/ يتلذذ في الوقت الراهن/ كل الحكام والكهنة/ أصحاب الملة والسدنة/ مدت كل الأيدي النتنة/ لمحاصرتك يا مرتهنة”. احتلت المرأة القضية الرئيسية في قصائدها، إذ تراها منتهكة دائماً. كتبت لها أيضاَ قصيدة تحت اسم (السفر الأول.. التكوين): “أنا ما دعوت آدم سواه لأضاجعه/ آمون راع زفيت نفسي إليه.. حتي أنجب منه إلها آخر للشمس/ فجاء رائعا كما تقول الأسطورة/ أنا امرأة من تراث/ تخشي الحداثة وما بعدها/ فلا تكسر أنف أبا الهول/ لتمحو عنه عبء التاريخ/ ستظل أساور ملكاتنا تزين متحف برلين لحين إشعار آخر/ حواء لا تستحق عبث الحياة/ فتتقلب ذات اليسار علي ضفة النهر/ قربانا وعفة”.
استخدمت المرأة أيضاً رمزاً للوطن. ظهر ذلك بوضوح في قصيدة (افتح النافذة لقمر لائذ)، حيث تحكي فيها عن موقف رصدته أثناء زيارتها إلي ولاية بانتيو في جنوب السودان، مع إحدي القوافل الطبية بحكم دراستها لمجال المخابرات الطبية، إذ وجدت الناس هُناك يعانون الأمراض والفقر، ويرتدون ملابس بالية ومهترئة رغم أن الولاية منطقة غنية بالبترول. قالت: “في جولتي رأيت مشهدا، أصابني بالقهر؛ امرأة تحاول إقناع صغيرها، بأن يرضع من ثدييها، لكنه أبي، لأنه كان قد مات من شدة الجفاف”. كَتبت: “شكرا لتلك البلاد/ البلاد التي قد تخصك يوماً/ وعذرا لكل النساء اللواتي أنجبننا ذات وقت عصي/ لأشول.. لذاك المعسكر أقول/ وجفاف الحليب علي صدرها وموت الرضيع/ للجميع.. إذا اغني الجياع/ وشكرا حزيناً لكل الرعاع/ الذين استباحوا باسم الوطن جميع الخطايا”.
لم تنج قصائدها من الصراعات، كأن حربا بدأت لتوها حين تقرأ عن مشاهد الفجيعة التي تستيقظ عليها أقاليم السودان كل صباح. نقلت أحزان الثوار. الهزيمة المتكررة. ارتطام الأزقة. عويل الطير. وانفلات أمن المدن. في قصيدة (مقصلة الوطن.. سيعاد ترتيب الجنائز) قالت: “مُرهقةٌ أنا/ التفاصيلُ الأخيرةُ للرحيل/ مدينةٌ تكشفُ عورتها.. ثمَّ تخرجُ في كلِّ صبحٍ تفتِّش عن رداءٍ/ تحيكه كفناً لكل ضحيَّة/ وطنٌ يُبِيحُ في كل أمسيَةٍ جَنَازةً/ وأنا أظَلُّ أبحثُ في خلايا الجِلْدِ/ عن أثرٍ لغاز الخردل/ تُحدِّثُني المدينةُ كلَّ يومٍ عن إبادات جماعيَّة/ ويروقها هذا الحديث/ وقباحةِ الوجه الذي قد سادَ فيها/ ونَزْعَةٍ من عُنصريَّة/ حربٍ لأجل العِرقِ.. أجْلِ الدين.. أجْلِ الخبز.. أجل الحرب واللا حرب”.
” لمدينتي خالص التبرير.. ولي حق الصراخ” تتابع شاهيناز، التي ألزمتها الحرب بالكتابة، إذ أهدت هذه القصيدة للشهداء الذين سقطوا في انتفاضة سبتمبر 2013. تقول: ” في هذه الأحداث، لم أستطع كتابة أي شعر ليس له علاقة بالثورة، وجدتني أكتب عن أوجاع الناس، ووجعي، خصوصاً أنه كان موسم دم في السودان. لم تكن هذه المرة الأولي، أنا ولدت في زمن الحرب، وتنقلت بين المدن المشتعلة، وعرفت كيف تُدمر الحروب البلاد والناس، ما جعلني أنزف الشعر دون رغبة مني”. وفي قصيدة أخري تحدثت عن التيارات الثورية التي تولد لتهزم وتناهض كل القديم: “لا تكترث.. إني ذهبت لأنبعث/ كي ما أؤسس موطنا للعشق/ أنت.. قلها بصدق/ وضع العبارات الأنيقة علي الجدارات العتيقة.. وأنعتق من أسر ما لا يتفق/ افرد شراعك وأنطلق/ هذي اللغات الانتقاء..الاشتهاء.. لم تنهزم/ كل الشوارع لك.. الأرصفة.. لن تنعدم”
لذلك كانت قضيتها الأولي هي الإنسان، تكتب عن جوعه، وفقره، وقهره، ورغبته في الحياة، وتطلعه للعدالة، لكنها لم تتجاهل الحب الذي يحمل صراعاً من نوع آخر، ففي قصيدة (لون مشاكس يصلح للغواية) تناولت علاقة امرأة بفنان تشكيلي بتحرر قد لا يروق لبعض السودانيين، إذ تري أن الكتابة عن رغبات الجسد شيء لا يجوز تغافله؛ “كن لي.. سأكونك بالحب ريشة ألوان ومحبرة/ حد اشتهاء .. خارطة طريق.. ورداء للأبدية/ عاصفة لا تبقي ولا تذر/ عاهرة هي اللغة التي لا تستقيم معك/ وفاجرة لوحتك التي لا اتكئ عليها خفية/ امدد لي يدك/ اعبث بذاكرتي/ اعتليني/ لنصعد في اتجاه شهوتنا/ لك الحنين.. الدفء.. وأشجار الحليب/ ولي ترنيمة الشهوة الأولي”.