تمهيد
يُعد فن الرسم والتصوير من أقدم الفنون، منذ بدأ الإنسان في تسجيل تاريخ وجوده على هذه الأرض، ونشأ مع بدء الإنسان البدائي خطواته الأولى في رسم بطولاته على جدران الكهوف، لذا يُعدّ فن التصوير في العراق من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان منذ بدء الخليقة، حيث الأسس والمقومات الحضارية التي يقوم عليها كيان المجتمعات المتحضرة ظهرت في حضارة وادي الرافدين قبل جميع الحضارات القديمة. "إن ارض العراق، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب تختزن كنوزا ثمينة من موروث التاريخ" فضلاً عن أن الشرائع العراقية القديمة سبقت أقدم الشرائع والقوانين في سائر المجتمعات والحضارات الأخرى بعشرات القرون .
كانت الفنون في العراق القديم في تطور مستمر ملازم لتطور الحضارة القديمة، حتى أصبح لدينا ما يمكن أن يشكل بداية لتلك الفنون.حيث كشفت آثار الأجيال القديمة بدايات لفن النحت،الرسم،التلوين،الزخارف وأمور عديدة تدخل في مضمار الفنون التشكيلية، حيث تشكلت الجذور الأولى للفن بشكل عام، والفن العراقي بشكل خاص.
قام الفنان في حضارة بلاد مابين النهرين ( الميسوبوتاميا Mesopotamia) ومن خلال تعبيره المباشر للمدركات البصرية سواء للأشكال أو الألوان أو العناصر التي تقع في محيط بيئته لتسجيل تاريخه وأحداثه اليومية في صيغ تعبيرية ذات مضامين جمالية متنوعة ومتعددة.
كان للمعتقدات الدينية والحياة السياسية أثرها الواضح على طبيعة الفن في العراق، حيث تعد الناحية الدينية والحياة السياسية المظهر الأول لتلك الفنون، حيث حمل خصائصه وأهمها ما تضمنته اللوحة العراقية من معاني نفسية ودلالات اجتماعية، فرضتها الظروف التي مر بها الفنان في العراق كمواطن وكفنان استطاع أن يحول القضايا السياسية في بلده ضمن قدرات فنية عالية إلى معنى وقيمة في أصعب الظروف.
بفكره ودلالاته التعبيرية، كذلك استطاع أن يوظف كل الخامات والوسائل المتاحة، والمفاهيم الحديثة لخلق تجربة فنية عراقية في الاتجاه المعاصر للتحرر من أي معايير كلاسيكية في التصوير، وقدم مجموعة من القيم التي يمكن اكتشافها في أعماله الفنية الحسية والرمزية والوظيفية والتعبيرية، مرتبطة بعناصر العمل الفني كالتكوين والتقنيات والخامات والخطوط والألوان والأفكار بفرادة وقوة .
أولاً: الأساليب التعبيرية للتصوير في حضارة وادي الرافدين:
عكس اهتمام الفنان في العراق أساليباً متنوعة منذ أقدم العصور؛ وحمل أسلوبًا عامًا في طبيعة الفن، فكانت الأعمال وخاصة (الفن الأشوري) Assyrian Art و(الفن البابلي) Babylonian Art وما تضمنته من مضامين خاصة لها علاقة وثيقة بالعقائد الدينية القديمة في حياة المجتمع السومري والبابلي والآشوري. لقد كان اهتمام الفنان على مر التاريخ منصباً على ترجمة مجال الرؤية في بيئته، ومنذ آلاف السنين وضع الفنان في العراق لبنات الحضارات الإنسانية، ضمن إطار فكري وجمالي خاص، فتعددت أفكاره وأساليبه الفنية لتعكس طبيعة حياته.
إن الإنسان في بلاد مابين النهرين أقام حضارته وفق الاستجابات التاريخية لتطور حياته، ويمكننا أن نربط تلك الحياة ومستواها وازدهارها بتلك الأنشطة الفنية من خلال الرسوم التي عثر عليها في المعابد والقصور ومن خلال صياغتها التي كانت تعتمد بمنطلق على الإحساس والمشاعر عبر هذه التكوينات الفنية والجمالية.
كانت البدايات عبارة عن طبعات للكف البشرية المخلوطة بألوان الدم الحمراء، وقد تعامل الفنان مع دائرة المعتقد الديني بهذا النوع من الرسوم ليدفع الخطر عنه.ومن أقدم تلك الأعمال، الرسوم الجدارية تلك التي وجدت في قرية أم الدباغية في الغرب من مدينة الحضر حيث رسم فنانوها أعمالا عديدة على جدران أبنيتهم، كانت تمثل تلك الجداريات حيواناتهم المفضلة وهي الحمار الوحشي onager كما في الشكل الآتي :
صورة مضمّنة 2
(شكل يمثل تصوير جداري، الحمار الوحشي ، العصر الحجري الحديث أم الدباغية، الحضر)
الذي يمثل شكل لمستطيل عرضي، توزعت في مساحته أشكال حيوانية متفرقة، قسّم الفنان الجدارية إلى قسمين القسم الأول أمامي توزعت فيه الحيوانات القريبة والقسم الثاني صوّر فيه الأشكال البعيدة حيث نلاحظ الطريقة التلقائية في رسم الأشكال وتوزيعها على سطح العمل الفني، وكيفية رسم الخطوط بشكل بدائي لأشكال الحمير.
حقق الفنان خطوات مهمة في إرساء قواعد الفن في العراق، بما يتلاءم وتركيبته الروحية والثقافية وبرز ذلك واضحاً من خلال أعماله مثل الرسوم البسيطة Sober Drawing والتكوينات في مشاهد تلك الجداريات كما في شكل (النخلة المقدسة)
صورة مضمّنة 3
(شكل يمثل نقش، النخلة المقدسة، مخلفات النقوش السومرية للنخل ،العهد السومري)
"حملت الأشكال دلالات على الديمومة والاستمرارية من خلال طابع التكوين والحركة التي نظمت بها الأشكال على السطوح التصويرية لتلك الأعمال حيث عالج أعماله الفنية تعبيرا وبناءا بأشكال مختلفة، بنى عليها تكويناته بتلقائية وبصيغ تركيبية لها خصوصيتها التي تميزها من خلال الاهتمام بالعناصر التشكيلية، من خطوط وألوان ومساحات وخصوصا نوع الخط نظرا لصفاته التي تتيح له القدرة على التعبير عن الحركات الانفعالية وتوزيع عناصر التكوين وتنوع الأوضاع والأشكال، خلق الفنان نوعا من العلاقات البسيطة والمركبة في تلك الرسوم كالتماس،التراكب والتبادل موحيا بحركة دينامكية dynamism أضفت على القيم الإيقاعية نوعا من الإدراك البصري في حركة العين وعلى تنقّلها داخل مساحة العمل الفني محققا بذلك مجموعة من قيم النظم الإيقاعية في الوحدة والتنوع كما في شكل (البوابة النجمية) يمثل العمل خروج الآلهة(انكي) من خلال باب الماء للدخول في عالمنا يُلاحظ التكرار والتناظر في الوحدة الشكلية.
___________
هوامش:
* أم الدباغية: قرية زراعية من العصر الحجري الحديث (حوالي 5700 ق.م). تقع في منطقة الجزيرة الى الغرب من مدينة الحضر في العراق. موسوعة الفن التشكيلي العراقي.
* ح1 من كتابي الموسوم ( فن الرسم والتصوير في العراق(