قدرنا أن نفجع من حين لآخر بفقد أعزة أعلام ، ورواد نبغاء ، فالموت يعصف من حين لآخر بكل من ذبلت ثمرته ، ليقطفها وقد آن أوان ذلك ،تصديقا لقوله تعالى :" إذا جاء أجلهم فلا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون " ( يونس ) ، فلا يملك المرء غير الاتعاظ من مثل هذه المفاجآت ، فيعمل على تخليد ذكره بجميل الأفعال وصالح الأعمال .( لكن ليتـنا نتعظ بالمصير!؟ ) .
واليوم ترحل في صمت امرأة رسمت ملامح شخصيتها بهدوء واتزان فيما صنفته من مؤلفات ، وما كرسته في حياتها من أعمال خيرية وجدت فيها راحة نفسية كما ذكرت لي مرارا ، واجتهدت في إدخال البسمة على وجوه أطفال وشباب حرموا من لذة حياة هنية ، فكانت لهم بمثابة الأم الرؤوم والمربية الفاضلة ، أفسحت لهم مجال حياة حرموا منها في بيت ارتضته ليكون في مدينة طنجة وقاية لهم من الشارع ، فينعموا فيه بالتعلم والتمدرس والعيش الرغد كما كانت تتصوره ، سعدتْ بذلك ، وملأتْ أوقاتها بعمل البر والإحسان بهذه المدينة ، وقد اختارتها لتكون شاهدا على اتساع حلقة عملها التربوي والعلمي بعد تطوان ، مدينة الإقامة ، منذ سنوات خلت ، بعد أن أحيلت على التقاعد ، لم يعد يشغلها شيء آخر ،غير العناية بالشباب الضائع ، والتهمم بكفالته ، بتعليمه وتربيته وتزويده بآليات أي عمل يرتضيه لنفسه ، تراقب ، وتؤطر ، وتنفق من مالها لتدبير شؤون ذلك البيت الطنجي الذي ارتضته للعمل الصالح ، تقربا من الخالق ، وعملا بقول الرسول عليه السلام :" من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عليه كرب يوم القيامة، ومن يسَّـر على معـسر يــسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة " .
كان اللقاء بيننا بعد مغادرتها الرباط منذ سنوات ، يتم عبر الهاتف ، لتعزف أحلى الكلام وأطيبه عن عملها،وعن سعادتها بالانشغال بأبناء وطنها ، فهي تتنقل بين مقر سكناها تطوان ، ومقر دار الخير التي أقامتها بطنجة ، تحكي عن ظروف إقامة تلكم الدار ، وعن الصعوبات وعن الاهتمامات ، وعن التحدي للنجاح فيما أقدمت عليه بعزيمة وصبر ، وكان الحديث يطول أحيانا لأدعوها إلى ترجمة أطروحتها الجامعية ونشرها وإلى جمع مقالاتها المتعددة التي كانت تتصدر مقالات مجلة البحث العلمي ودعوة الحق والإيمان وغيرها من الإصدارات التي كانت تنجز من حين لآخر؛ كترجمات من الإسبانية وغيرها ، لكنها كان ترد ،إن ما يشغلها الآن هو العمل الخيري الذي تسعى من خلاله إلى إرضاء نفسها ،وإرضاء ضميرها .
تعداد مزايا هذه السيدة الفاضلة ، مربية ناجحة ،أستاذة وباحثة رصينة ، وكاتبة رزينة ، امرأة بشوش، امرأة ودود ،متواضعة ، تعداد مزاياها يطول ويطول ،علما وخلقا ؛ فهي أول امرأة تبوأت منصب مديرة لدار المعلمات بتطوان،وأول خريجة جامعية إسبانية سنة 1957 ، وأول كاتبة في مجلات متعددة ، في تطوان والرباط وغيرهما ، من الأوليات اللائي استهواهن تدبيج المقالات في صحف ومجلات مغربية كمجلة المعتمد والأنيس بتطوان ، ودعوة الحق والإيمان ومجلة البحث العلمي والثقافة المغربية بالرباط وغير ذلك . كان القلم منذ البداية وسيلتها لحضور شخصيتها العلمية ، فنالت جائزة المغرب للآدب سنة 1954 عن روايتها " الأميرة خناثة " ، ثم نشرتها تباعا مسلسلة بمجلة الأنوار سنة 1955 ، ثم بجريدة الصحراء المغربية في وقت لم تكن المرأة المغربية قد أعلنت عن ميلادها كمتعلمة وباحثة وأستاذة إلى غيرها من المناصب التي شغـلتها فيما بعد .
أمينة اللوه سيدة لها حضور وازن في الحياة الأدبية المغربية ، كيف لا والفقيه العلامة المختار السوسي تحدث عنها في "معسوله" (ج2/ 323) بشغف وتقدير ، فقال : " هذه المرأة العريقة في الأحساب والأنساب ،الأصيلة في الآداب والأخلاق، المضروب بها المثل في المحافظة على تعاليم الدين القويم ،والتمسك بعادات حميدة ، وتقاليد عريقة، " ،أما الأستاذ عبد الوهاب بن منصور فيتحدث عنها في كتابه: "أعلام المغرب العربي" (ج1/ 15) فيقول : " لفتت الأنظار إليها بحذقها ونجابتها وهي تعلم ، مثلما لفتتها وهي تتعلم " .
ترحب بك وتنصت إليك باهتمام وعناية ،ثم تمتعك بالمفيد من الأحاديث ، وتشحذ همتك لمتابعة الخطو في ميدان الدرس والبحث ،وتنصحك بتحدي الظروف ، وحرب الأعداء بالعمل ، فالعمل وحده في رأيها هو المفتاح السحري للحياة الناجحة ، وهو مبعث الفخر والاعتزاز ، فلم لا يكون الحافز والمهماز في أي ظرف كان ، وللإفلات من الآخر ما عليك إلا بالعمل ، هكذا كانت تردد على مسامعي باستمرار ، منذ أن عرفتها في أواخر الستينات بثانوية الأميرة للانزهة بالرباط ، مفتشة للغة العربية ، وكانت فرصة لإقامة علاقة ودية معها ، رحبت بي في بيتها بالرباط مرارا ،وشجعتني على الدرس والبحث ، وأفادتني بما يحمل جرابها من سديد الرأي وبليغ الحكم ، وأنا في أول الطريق .، وتحدثت بتفصيل عن مسيرتها العلمية وعن ارتباطها بزوجها الأستاذ إبراهيم الإلغي ،معتزة بالعلاقة الروحية التي كانت تربطهما خلال مسيرة زوجية موفقة ، وقد أورد العلامة المختار السوسي ما دونه زوجها عنها في ثنايا ترجمته في المعسول :" لإلـغ أن تشمخ بأن أعلم آنسة مغربية في فجر نهضتنا أضيفت إلى إلـغ ، أو أضيفت إلـغ إليها " ،
حدثتني باعتزاز عن كتابها " حديث الذكريات " ،ففيه تكشف عن جوانب مضيئة من حياتها ، لم يسبق أن أعلنت عنها ، كما تذكر اعتزازها بركنها الإذاعي الأسبوعي بإذاعة درسة بتطوان وقد اختارت له اسما هو " حديث الخميس : فتاة تطوان تخاطبكم " ، كما حدثتني عن آخر عمل لها عن المرحوم المختار السوسي ،كتبته بعد توصلها بدعوة من جمعية ثقافية بتارودانت ،وأكدت بأنه موضوع يستحق القراءة . أما الحديث عن كتاباتها ومصنفاتها التي لم تطبع ولم تنشر إلى اليوم، فأعتقد أن على وزارة الثقافة المغربية أن تعنى به كرصيد معرفي وطني يجب الافتخاربه , فهو دين على عاتـقها .
أمينة اللوه من الباحثات العاملات في صمت ،شغلها موضوع الفتاة المغربية وما يجب أن تتحلى به من جميل الصفات ، داعية إلى تعليمها ، وإلى التمسك بالأخلاق الرفيعة ، فقد أورد زوجها إبراهيم الإلغي في كتابه " تاريخ الأدب العربي للمدارس الثانوية" ( 1/ 54 ) نصا لها توجه فيه الخطاب للفتاة المغربية :" عيشي حياة روحية أكثر منك مادية ، واسعدي بسعادة الروح، اجعلي العلوم قبلتك العظمى، ومحجتـك القصوى ، فـفيها ما تحمدين، قـفي في بابها واخلعي نعليك، فإنك في المحراب المقدس " .
ومؤكـد أن السيدة الفاضلة أمينة اللوه كانت مؤمنة بمبادئها ، فعاشت في المحراب المقدس ، محراب العلم والدرس ، بعيدا عن كل ما يشغل من ماديات الحياة وزخرفها ..... فأين لنا اليوم بشقيقات أمينة اللوه !! رحمها الله وأثابها على صالح أعمالها ،وجزاها الجزاء الأوفى عند مليك مقتدر .