الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

يوميات امرأة سورية في المنفى...

  • 1/2
  • 2/2

الأديبة والكاتبة الصحفية: سناء أبو شرار - الأردن - " خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "

أسير في شوارع غريبة عن ذاتي، عن أفكاري وعن مشاعري، شوارع لبلاد لم أعرفها من قبل ولم أفكر بالسفر إليها؛ جُررت إليها خوفاً من القتل ومن الخوف أيضاً. تركت خلفي كل ذكرياتي، وأحلامي وأمالي أيضاً، فلم يعد لي من أمل سوى أن أعيش بهدوء، بسلام وإذا أمكن بكرامة. حين أتحدث تخرج كلماتي بلهجتي السورية الدمشقية، فينظرون إلى اللاجئة الضعيفة والمُستضعفة التي تقف أمامهم؛ منهم من يحتقرني ومنهم من يُشفق عليّ فيقول لي أحدهم أين عنوان الأمم المتحدة حتى دون أن أسأل عنه ومنهم من يشتم السوريين لأنهم سبب البطالة وسبب اشياء أخرى أعلمها أولا أعلمها.
كان لي حياة هناك، في دمشق، بلد الحضارة والياسيمن والورود؛ كان لي أهل وأقارب وأصدقاء، تلاشوا، إختفوا، قتلوا أو هاجروا حيث أعلم أو لا أعلم؛ وكان لي ذكريات دفنتها تحت ركام النسيان كي أتمكن من الحياة وإلا سأرى الموت مع كل صورة أو صوت أو خفقان قلب.
ولكي أعيش قررت ألا أسمع خفقان قلبي، فهو يخفق دون صوت، يضخ الدماء مثل أي آلة حديدية صدئة تكاد تتوقف عن العمل. لكي أعيش قررت أن...لا بل كان لابد أن أتناسى كرامتي، فأنا ابنة دمشق الأبية العريقة، أصبحت لاجئة مشردة تنتظر الإعانات والمساعدات وحتي إن لم أكن أنتظرها يعتقد الآخرون بأنني بإنتظارها فيعاملونني كأنني لاجئة ومتسولة قانونية بوصاية دولية .
أبلغ من العمر ثلاثون عاماً، ولكنني أكلمت الستون بهذه السنوات الأخيرة، نسيت أنني شابة، فأنا أرى الحياة بعيون امرأة بلغت الستون منذ أن بدأت النيران تنهش أرضها وأهلها. أخفيت شبابي كي لا يعتقدون بأنني قد أبيعه لأجل بعض المال. أخفيته كي أحفظ ماء وجهي وأصون ما تبقى لي من كرامة أمام النظرات والشكوك والشهوات.
هناك، في قارة أخرى، بعيدة كبعد الأرض عن السماء، قارة اسمها إستراليا، يعيش أخي، لا أحلم حتى بأن أراه، فإن سافرت إليه لن أستطيع أن أعود ، وإن حضر لزيارتي قد لا يستطيع أن يعود؛ هو أخي بأفكاري وعلى السكايب، حيث أراه بنهاية كل أسبوع، أحبس دموعي وأبتسم حين نتحدث معاً واقول له بأنني بألف خير؛ وحين أغلق جهاز الكمبيوتر، أغرق ببكاء قد يستمر حتي الصباح؛ إعتاد الجيران على رؤية عيوني الحمراء والدامعة في الصباح، فلا يسألونني لماذا؟ لأنهم يعرفون السبب ولا داعي للسؤال: لاجئة سورية.
الأقسى من واقعي هي ذكرياتي، صور من قتلوا من أحبائي ومن حملوا الحقائب ورحلوا ليلاً وخوفاً من المعارك والأشباح والقنابل؛ صور الأشجار الفزعة والطيور المهاجرة والأرض المحترقة؛ وكأنني في فيلم رعب لا تنتهي فصوله؛ أريد أن أستيقظ يوماً ما وأرى الصباح من نافذة غرفتي بدمشق، أن أصحو في صباحٍ تغرد به الطيور، وتمتليء غرفتي برائحة الياسمين، ثم أذهب مع عائلتي للإفطار بأحد مطاعم دمشق القديمة، ثم تصعد بنا السيارة إلى قمة جبل قسيون لنشرب القهوة معاً ونرى دمشق تتألق تحت أشعة شمس الشتاء الدافئة، البيوت والشوراع والحدائق تنعم بالدفء والأمان، وأنا أقف بين أفراد أسرتي سعيدة وجميلة وأتمنى لو أن الحياة تكون أبدية في معشوقتي دمشق. ولكنني أستيقظ وفي كل يوم على ذات الكابوس، لست في دمشق، وغريبة في بلاد غريبة، وحيدة دون أهلي، غريبة عن ذاتي، أسير وحيدة في شوارع لا أعرفها، لو سرت بها مئات المرات لا أنتمي إليها وفي كل مرة أسير بها أشعر بأنها المرة الأولى التي أسير بها؛ كأنها غربة تتجدد في كل صباح.
وأتسائل في كل ليلة لماذا لم أمت مع بقية أفراد اسرتي؟ لماذا يجب أن أموت في كل يوم بغربتي ووحدتي وبرودة الإحتقار؟
لماذا تبدو السماء بعيدة والقمر مهاجراً؟ ثم لماذا كل هذه القسوة ضد الضعيف؟ لماذا...لماذا...؟ عشرات بل مئات الأسئلة تقف بيني وبين النوم العميق الهانيء، لقد تركت النوم هناك على وسادتي البيضاء...لا بل ، لقد نسيت، لم يعد لي وسادة ولا سرير، لقد تدمر البيت كله بما فيه، أنا فقط من كانت خارج البيت وحين عدت لم يكن هناك سوى حطام ضخم سد الشارع؛ وقفت هناك أصرخ دون صوت، وأركض في كل الإتجاهات؛ فقدت عقلي لساعات طويلة، وحين إسترجعته فقدت رغبتي في الحياة، ولكن الحياة ترفض أن تغادرني فتسير بي قدماي دون إرادة مني؛ طلبوا مني أن أسكن هنا، فسكنت، طلبوا مني ان آكل هنا ففعلت؛ لابد أن أنفذ الأوامر، فأنا لاجئة وهويتي أصبحت سجني الذي يتحرك معي، سورية مشردة ولاجئة بجواز سفر يثير القلق والكره والشفقة وكذلك اللامبالاة.
لم يتبق لي من الوجود سوى حلم، أراه في كل ليلة قبل أن أنام، أرسمه بدموعي الصامتة، أسير من جديد في شوارع دمشق، أسير في سوق الحميدية، أشتري التوابل، والمناديل الملونة، ثم أسير في شوراع الصالحية، ثم المالكي ، ثم أبو رمانه...ثم ...ثم أسير طوال الليل إلى أن يغلبني النوم وأنسى أنني أصبحت مجرد لاجئة سورية.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى