لا شك ان هنالك فرقا جليّا بين ما يسنه القانون من نصوص وتشريعات بخصوص المرأة وما نلحظه على ارض الواقع من تطبيقات وسلوكيات. المؤكد انّ هذا الفرق كان واضحا في السنوات
التي سبقت الاستقلال وتحديدا قبل وضع مجلة الاحوال الشخصية. وقد عكست ذلك العديد من فصول مجلة الالتزامات والعقود التي ابرزت بخصوص المرأة نوعا من السلوكيات الابوية والقوالب النمطية السلبية حول دور هذه الاخيرة ومكانتها في المجتمع. نحن نعلم انّ موقف المجتمع قبل الاستقلال كرّس فكرة العائلة الابوية التي تعطي للرجل كلّ الصلاحيات في تسيير وتنظيم وتدبير شؤون العائلة متجاوزا بذلك المرأة ومتغافلا في العديد من الحالات والاحيان عن حقوقها، مركزا كلّ تطلباته على الواجبات المحمولة عليها.
مع وضع مجلة الاحوال الشخصية ودخول البلاد في مرحلة جديدة في تسيير وتاطير المجتمع انطلقت عملية رائدة تمثلت في وضع القوانين التي تخرج المراة من الدور السلبي التي كانت محنطة فيه لتدفعها نحن تواجد تفاعلي وتشاركي داخل المجتمع بصفة عامة والعائلة بصفة خاصة. وقد تمّ ذلك انطلاقا من الغاء نظم تعدد الزوجات وخضوع المراة لسلطة الرجل بخصوص العديد من حقوقها وتحديدا حقها في العمل اذ انّه كان يشترط قبل 1957 ووفق المجلة المدنية حصول المراة على رخصة من زوجها حتى تتمكن من ممارسة عمل مأجور.
«الغاء السلوكيات الابوية»
تواترت مع مجلة الاحوال الشخصية والرجّة الايجابية الكبيرة التي احدثتها على مستوى المجتمع النصوص «الاصلاحيّة» التي تستهدف المرأة قصد الغاء كلّ مظاهر السلوكيات الابويّة والمواقف السلبية بخصوص دورها، الامر الذي خوّل لها انّ تتبوأ مكانة مغايرة لما عاشته قبل ذلك. لم يكن ذلك دون عناء ودون ردود افعال سلبية تحديدا من جهة العديد ممن اعتبروا هذا التطوّر خروجا عن السياقات الدينية ومتطلبات العادة والعرف، لكن في النهاية تمّ بفضل النضالات الكبيرة للمراة وللمؤمنين بحقوقها تكريس رؤية جديدة لها سمحت بإعطائها المكانة التي تستحقّ كشريكة للرجل.
يمكن القول انطلاقا من ذلك انه الى حدّ هذا التاريخ وضعت ترسانة قانونية في مختلف المجالات والاختصاصات تعطي للمراة ما تستحقّ، وهو الامر الذي انعكس في الفصول التي جاء بها دستور جانفي 2014 الذي اكّد بشكل صريح ولا لبس فيه على المساواة بين المواطنين والمواطنين وعلى الحفاظ على مكتسبات المراة وعلى تعزيزها. لكن ونحن بصدد الاحتفال بالعيد الوطني للمراة نتساءل حول مدى انعكاس ذلك على مستوى التطبيق والممارسة اليومية للمجتمع ولتونس.
«حضور مميز للمرأة في المحاكم»
في المجال القانوني وترتيبا عليه القضائي تتحدّد نوعا ما بوادر اجابة عن السؤال المذكور على مستويين متقابلين. يتعلق الاول بـمكانة المراة في المجال المهني بمختلف المواقع داخل المؤسسة القضائية وشبهها، اما الثاني فمجاله واسع يمكن التوقف للاستدلال عليه لدى جمهور المتقاضيات من النساء اللّاتي يجدن انفسهن مضطرات لـلتعامل مع النصوص القانونية لمجلة الاحوال الشخصية.
المتابع للنشاط القضائي داخل المحاكم والمرافق العمومية التابعة لها يلاحظ من أول وهلة الحضور المميز للمراة في مختلف الوظائف القضائية وفي العديد من المواقع للهرم الوظيفي ذات العلاقة. حضورا
متطوّرا بشكل مستمر مع الايّام لكن له خصوصيات بارزة من بينها انّ هنالك «مهن» او وظائف قضائية سواء من صنف القضاء الجالس او غيره هي حكرا على الرجال دون غيرهم. ولقد بينت ذلك رئيسة نقابة القضاة روضة العبيدي عندما اكّدت بخصوص المراة القاضية انّه ليست هنالك قاضية وقعت تسميتها في خطة وكيل الجمهورية او متفقد عام وغيرها. هذا دون اعتبار خطة قضاة التحقيق التي بقيت «رجالية» بالاساس...
«في غياب النصوص القانونية»
كان ذلك من أمر الواقع الصرف اذ انّه لا وجود الان لنصّ قانوني واحدا يامر بذلك أو يشجّع عليه او يكرّس موقفا تمييزيا مهما كان نوعه سليبا او ايجابيا وفي ذلك تطبيق صريح لمبدإ المساواة. الاشكال اذا يكمن في طرق التطبيق وتاويلها وممارستها. ويمكن القول ترتيبا على ذلك انّه ليست هنالك قوانين تمييزية لكنّ الاشكال يكمن اساسا في العقليات وفي التعامل مع السلوكيات الموروثة وايضا في رجع صدى بعض المظاهر للمسكوت عنه.
يفسر البعض ذلك انّ «استبعاد» المراة من بعض الخطط القضائية الهامّة كالمذكورة آنفا يجد تفسيرا له في التعامل «القديم-المتجدّد» مع مفهوم السلطة. يبرّر اصحاب هذا الموقف فكرتهم بانّ هذا النوع من الوظائف يجسّم ممارسة كليّة للسلطة وهو أمر موكول وفق هذا التمشي الموروث للرجال دون غيرهم مما يفرز هذا التمييز السلبي والاقصاء المقنع للمراة من هذه الاختصاصات.
توازيا مع ذلك يمكن القول انّه في قطاع المحاماة المراة تجد نفسها موضوع مساواة كاملة ضرورة انها متواجدة في المهنة على جميع المستويات وبمختلف جداولها. التساؤل الوحيد في هذا الاطار يتعلّق بعلاقة المراة بخطتي عمادة الهيئة ورئاسة الفروع. لم تتبوأ في اي حقبة زمنية الى حدّ اليوم محامية منصبا من هذه المناصب وهو ما يطرح العديد من التساؤلات في هذا الخصوص.
«المرأة في الصف الأول من المستهدفين»
أما على مستوى التقاضي وتواجد المرأة بوصفها طالبة حقوق وممارسة للنصوص القانونية المنظمة للنزاع المدني تحديدا فانّه يمكن الانتهاء الى انّه من خلال النزاعات المنشورة في مادة الاحوال الشخصية بمختلف اصنافها من طلاق ونفقة وعنف بين الازواج وإهمال وغيرها تجد المرأة نفسها في الصفّ الاول من «المستهدفات» ومن «المهضومات حقوقهن». استقراء سريع لما تشهده يوميا المحاكم في هذا الخصوص يدلّ على ذلك فالدوائر القضائية المختصة في ذلك تواجه كمّا هائلا من القضايا التي تفرز بشكل جليّ ما تعانيه المرأة تحديدا كزوجة بصفتها تلك وأيضا بصفتها حاضنة لأبنائها. عدد الملفات المنشورة اسبوعيا وخصوصا تلك التي تتعهد بها محاكم النواحي المختصة مطلقا في مادة النفقة تؤكّد ما سبق توصيفه.
هذا المعطى الواقعي الذي فرض نفسه على الجميع أدّى في سنة 2014 بالجهات المعنية الى اتخاذ قرار بتمكين ما يقارب الخمسين قاضيا ممّن يسمون بـ«قضاة العائلة» من تكوين معمّق في مجال اختصاصهم وذلك حتى يتسنى تحسين المردودية وترتيبا على ذلك تخفيض نسب حالات الطلاق بانجاح الجلسات الصلحية وحماية الاطفال من كافة المخاطر المترتبة على ذلك والناتجة عن اختلال العلاقات العائلية.
ايمان البجاوي الرئيسة السابقة لجميعة المحامين الشبان
«الترسانة القانونية لم تنصف المرأة»
اعتبرت رئيسة جمعية المحامين الشبان ايمان البجاوي، وهي اول امراة يتم تتويجها لرئاسة جمعية المحامين الشبان التي تاسست منذ 1970، إنّ المحامية بصفة عامة تتعرض الى تحديات كبيرة في حياتها العملية نظرا لما تفرضه عليها المهنة من تنقل بين مختلف المحاكم التونسية بكلّ تراب الجمهورية، بالتوازي مع واجب تلبية الحاجيات اليومية للعائلة والسهر على تماسكها في ذات الوقت، علما وانّ نسبة تمثيلية المراة في المكتب التنفيذي لجمعية المحامين الشبان تقدر بـ3/9 خلال السنة الحالية وقد قدرت بـ4/9 خلال السنة الفارطة.
من جهة اخرى رأت البجاوي أنّ المرأة التونسية بصفة عامّة تتعرض يوميا تقريبا الى العنف سواء اللفظي منه او الجسدي من قبل ما وصفتهم بـ«اصحاب الثقافة الرجولية «. كما عرجت محدّثتنا على مسالة النساء القائدات واصحاب المناصب العليا، مؤكدة انها الفئة الاكثر عرضة للتعنيف نظرا لتواصل «عقلية» رفض قيادة المرأة.
من جهة اخرى لاحظت ايمان البجاوي ان الترسانة القانونية لم تنصف في مجملها المرأة التونسية سوى في حقه في النفقة ، مشيرة الى أنّ هنالك قوانينن إما ان تكون مفقودة او تمييزية حيث انها ترتكز اساسا على اذن الزوج وذلك في ما يتعلق بالامرأة الحاضنة التي يفرض عليها القانون ان لا تسافر مع محضونها الا بعد الحصول على اذن مسبق من الولي والمقصود به هنا الزوج. ذلك على غرار عدم تكريس اي قانون خاصّ لحماية المرأة من العنف الذي تتعرض له بصفة مستمرة ودائمة سواء في منزلها او في الشارع.
واشارت محدثتنا الى انّ المراة التونسية، وفي اطار العدالة الانتقالية ، في حاجة ماسة الى توفير نصوص قانونية صريحة وواضحة تحميها من كلّ عنف من شأنه ان يسلط عليها. واكدت انّ جمعية المحامين الشبان كانت قد اقترحت توفير رقم مجاني خاص بالنساء الاتي يتعرّضن للعنف مثلما هو مكرس في عدد من الدول الاجنبية.
اما في ما يتعلق بقانون المواريث فقد اعتبرت محدّثتنا انّ ذلك يعتبر نقطة ايجابية للمرأة خاصة وانه من خلال مقارنة النصوص التشريعية بالقرآنية يتبين ان هنالك مساواة ما بين الرجل والمرأة، مشيرة الى انّ هنالك حالات تحجب فيها المرأة ارث الرجل وفي حالات ترث معه النصف وفي حالات مغايرة ترث النصف او الثلث...
%39.1 نسبة النساء القاضيات في تونس
بالعودة إلى آخر الإحصائيات التي أفادتنا بها وسيلة الكعبي الناطق الرسمي باسم الهيئة الوقتية للقضاء العدلي والمتعلقة بمكانة المرأة في القضاء حيث يوجد 2150 قاضي في تونس 834 منهم نساء أي بنسبة %39.1 وفي ما يتعلق بتمثيلية المرأة التونسية حسب الرتب القضائية فإن %53 من النساء نجدهن في الرتبة الأولى في حين تتواجد المرأة القاضية من الرتبة الثانية بنسبة %29.6 أما الرتبة الثالثة فحضور النساء فيها وصل الى %28.6 . أرقام وحسب رؤية وسيلة الكعبي تبعث على الأمل ومشجعة جدا للمضي قدما نحو الأفضل خاصة وأنها ارقام لا توجد في أي بلد عربي على حد تعبيرها ولكن يجب تدعيمها وترفيعها بوجود المرأة في المناصب العليا».
روضة العبيدي رئيسة نقابة القضاة التونسيين
«الإشكال في العقلية وليس في القوانين»
لا احد ينكر أن المرأة التونسية سجلت حضورها في جميع الميادين السياسية منها والثقافية وكذلك القضائية حيث نجدها محامية وقاضية ولكن هذه التمثيلية ضئيلة في موقع القرار الأمر الذي يجعلنا نطرح سؤالا محوريا وجوهريا هو هل أن السبب الكامن وراء ذلك هي الترسانة القانونية التي تميز المرأة عن الرجل في بعض المهن خاصة منها القضائية أم أن المسألة لها منظور آخر. هنا توجهنا بالسؤال إلى
أهل الاختصاص الذين عاشوا تجربة واقعية في سلك القضاة فتحدثنا مع روضة العبيدي رئيسة نقابة القضاة التونسيين التي نفت وجود قوانين تمييزية سواء في مجال القضاء أو في غيره فقالت «لا توجد قوانين تمييزية على كل المستويات عامة وفي القضاء بصفة خاصة القوانين لا تميز بين الرجل القاضي والمرأة القاضية فالجميع سواسية ولكن الإشكال يكمن في العقلية التي جعلت المشهد بهذه الشاكلة
رغم إثبات المرأة لكفاءتها مهنيا وأخلاقيا وإقرار الرجل بذلك إلا أننا لا نراها في المناصب الهامة فلماذا لا نجدها وكيلا للجمهورية أو وزيرة للعدل أو رئيس أول لمحكمة الاستئناف أو لمحكمة التعقيب أو كذلك متفقد عاما؟ علما وأنه في تاريخ تونس في مجال القضاء كانت هناك تجربتان لا غير وبالتالي فلا بد لهذه العقلية أن تتغير لأن وجود المرأة في مواقع القرار استحقاق وليس مطلبا وعلى المرأة أن تلعب دورها وتدافع عن حقها وبشراسة خاصة وانه لا يوجد أي نص تمييزي فالمسألة فقط تتعلق بتوجه عام وبإرادة».
وفي سؤالها عن دور نقابة القضاة في تغيير هذه العقلية وهذا التوجه خاصة وأن رئيستها امرأة قاضية أجابت العبيدي «قضاة تونس وبمبادرة من نقابة القضاة التونسيين بصدد الإعداد لمشروع ضخم في هذا الاتجاه بداية من العام المقبل وهو العمل على أن تأخذ المرأة موقعها في القضاء لأنه لدينا قناعة بأن المرأة القاضية لا بد أن تطالب بذلك خاصة وان الرجال قد أعلنوا في عديد المناسبات عن جدارة المرأة وحيوا عملها».
وسيلة الكعبي الناطق الرسمي باسم هيئة القضاء العدلي
«هناك أفكار رجعية تحاول المس من مكاسب المرأة»
اعتبرت وسيلة الكعبي أن «ذكرى 13 أوت تاريخ صدور مجلة الأحوال الشخصية يمثل منعرجا هاما في تاريخ تونس وهو أيضا تأكيد للإرادة السياسية ودورها الاستشرافي في سن تشريع كان سباقا ومتطورا على العقليات السائدة وفسح بذلك المجال للمرأة التونسية من أن تنتقل من موقع التابع والمهمش والمضطهد إلى الشريك الفاعل في العائلة وفي المجتمع فالمرأة هي مواطنة ولها من الحقوق والواجبات ماللرجل وهو ما كرسه الفصل 21 من الدستور ولعل المرأة القاضية هي عنوان لهذا التغيير المجتمعي فالقضاء كان ميدانا محافظا وعندما ولجته بنسب متفاوتة وعلى امتداد سنتين افتكت فيه مكانتها وبينت جدارتها مهنيا وحتى على مستوى الإدارة في الشأن القضائي صلب هياكل منتخبة على غرار هيئة القضاء العدلي»
واستدركت الكعبي بالقول «لكن مجريات الواقع الحالي تؤكد أن النمط التونسي مهدد وبظهور أفكار رجعية تحاول المس من مكاسب المرأة وحتى نسفها وهو ما يدعونا كقاضيات إلى مزيد اليقظة والعمل على احترام مكاسب الدستور وتوجهاته في اتجاه تكريس المساواة فالقاضيات والقضاة هم حماة للحقوق والحريات» وفي تعليقها حول ما إذا كان سبب غياب المرأة عن مواقع القرار يعود إلى وجود قوانين تمييزية أم أنها مسألة عقلية فقد نفت الاثنين وقالت «لا وجود لأي نص قانوني تمييزي في القضاء و لا اي مانع قانوني كما انه لا يمكن الحديث أيضا عن عقلية فالمرأة لها مكانتها في قطاع القضاء وهذا نفتخر به ولكن لا بد من تدعيم هذه المكانة في مراكز القرار في السلطة القضائية وذلك من خلال ترشيح النساء لمناصب عليا كالمجلس الأعلى للقضاء لأن المرأة اليوم إذا أردنا تصنيفها فهي في المناصب الوسطى»
بعض مظاهر دستورية تكرس المساواة
الفصل 34 :تمثيلية المراة في المجالس المنتخبة
الفصل 40 : حق كل مواطن ومواطنة في العمل في ظروف كريمة وباجر منصف
الفصل 46: حماية حقوق المراة المكتسبة :تساوي الفرص بين المراة والرجل في تقلّد المسؤوليات في كافة المجالات؛ التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة ؛ القضاء على العنف ضدّ المراة