مع أن الدولة الفاطمية ظهرت أولاً في المغرب الاقصى عام 296هـ/ 908 م، إلا أنه مع امتدادها الى مصر في 358هـ/ 969 م ثم الى بلاد الشام ومجاورتها للدولة العباسية أصبحت لدينا خلافتان بمرجعيتين مختلفتين. وما يهمّنا هنا مقاربة الدولة الفاطمية من خلال وقف المرأة، وبالتحديد معرفة مكانة وسلطة وثروة المرأة وإسهامها في الوقف على المجتمع، وهل من خصوصية فاطمية هنا؟
من المعروف أن المذهب الشيعي يعطي الانثى نصيباً أكبر في الارث، حيث يمكن أن ترث كل ثروة أبيها إذا لم يكن لها أخ أو أخت أو أن تتشارك معهما في اقتسام الثروة حاجبة بذلك الأعمام، وهو ما يسمح لها بالحصول على ثروة يمكن أن تتجلى في الوقف. فالوقف في المجتمع يُعبّر في ما يُعبّر عن ثروة الفرد، لأن من شروط الوقف الملكية، ولا وقف صحيحاً من دون ملك صريح. ومما له دلالة هنا أن جوهر الصقلّي عندما فتح مصر في 358 هـ/ 969 م باسم الفاطميين ترك القاضي السنّي محمد بن أحمد الذهلي المالكي في منصبه الى أن توفي في 366 هـ/ 976 م، فعيّن بعده القاضي الشيعي علي بن النعمان. ومع هذا بدأ تطبيق نظام المواريث وفق المذهب الشيعي الذي يجيز أن ترث البنت كل ما تركه أبواها إذا لم يكن لها أخ أو أخت، بينما كان المذهب السنّي لا يجيز لها أن ترث أكثر من نصف الثروة، ولذلك ثار فقهاء السنّة ضد هذا التغيير في 382ه/992 م، فاتخذ محمد بن النعمان بعض العقوبات ضدهم ووطّد التشريع الجديد. ومن ناحية أخرى، فإنّ انتساب السلالة الحاكمة والدولة الى أولاد الإمام علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء كان يحمل في حد ذاته دلالة معيّنة قد تكون قد تركت أثرها في هذا المجال، أي في دور أوضح للمرأة في أعلى هرم المجتمع الجديد.
فالمعطيات التي توفرها لنا المصادر تشير أيضاً الى دور ملموس للمرأة في هذا المجال، وبالتحديد لبعض زوجات الخلفاء الفاطميين، حيث لدينا مشاركة واضحة في الحياة العامة مع بناء المنشآت الدينية والتعليمية (جوامع ومدارس... الخ)، مع العلم أن بعضهن كنّ في الاصل جواري جئن من بيئات وثقافات مختلفة. وتجدر الاشارة هنا الى ان زوجة الخليفة الفاطمي كانت تحظى بالاحترام وتختصّ بألقاب عدة تعبّر عن ذلك مثل «الملكة» و «السيدة» و «الجهة العالية» و «الجهة المحترمة».
ومع أن بعض المصادر العربية قد تبالغ أحياناً، إلا أن ما تنقله عن ثروات النساء في الطبقة الحاكمة للدولة الفاطمية قد يعبّر عن بعض الواقع على الاقل. فقد كانت للنساء في الطبقة الحاكمة مخصّصات سنوية مالية وعينية، اضافة الى ما يوزّع عليهن من جانب الخلفاء في المناسبات المختلفة، اضافة الى استحقاقهن نسبة جيدة من الميراث وفق الفقه الشيعي. فقد توفيت «سيدة الملك» أخت الخليفة المعزّ لدين الله (341-365هـ/952-975م) في خلافة أخيها وتركت «ثلثمائة صندوق من الذهب العين ومن الجواهر والياقوت خمسة ويبات»، مع أنها كانت «أزهد الناس في الدنيا لا تأكل إلا من ثمن غزل يديها»، كما أن عبده ورشيدة ابنتي الخليفة المعزّ خلّفتا ثروة خيالية، وكذلك الامر مع «ست الملك» أو «ست النصر» أخت الخليفة الحاكم بأمر الله (386-411 هـ/ 996-1020م) وابنته «ست مصر». ولكن مثل هذه الثروات الكبيرة للنساء في الطبقة الحاكمة كانت تتكشف مع وفاتهن، بينما كانت بعضهن فقط تكشف عن مثل هذه الثروات بما تنفقه على المنشآت الدينية والتعليمية وغيرها خلال حياتها.
ويلاحظ هنا أن حضور المرأة في رأس هرم الدولة الفاطمية كان موجوداً في موطنها الاصلي، أي قبل فتح مصر وبناء القاهرة كعاصمة جديدة للدولة الفاطمية، وليست له علاقة بما كان موجوداً في الدولة العباسية المجاورة. فزوجة المعز لدين الله (341-365 هـ/ 952-975م) وأم الخليفة العزيز بالله (365-386 هـ/ 975-996 م) التي كانت تشتهر بلقب «السيدة المعزية» و «أم الأمراء»، كانت جارية في المغرب تحولت الى «أم ولد» مع اختلاف المصادر حول أصولها. ولكن اللافت ان «السيدة المعزية»، التي كانت تسميها المصادر أحياناً «تغريد» وأحياناً «درزان» أو «درزارة»، كان لها شأن في السياسة والتجارة والمجتمع. فالمقريزي يقول إنّ الخليفة المعز كان يتشاور معها في بعض أمور السياسة، كما أنها كانت تشتغل في التجارة مع مصر، حيث كان لها وكيل في القاهرة يبيع الجواري اللواتي ترسلهن من المغرب.
ًومع هذه المكانة التي كانت لـ»السيدة المعزية» في السلطة والثروة، فقد برزت أيضاً في المجتمع من خلال إنفاقها على بناء المنشآت الدينية وتقديم المساعدة للفقراء. ويلاحظ أن هذا الإسهام لـ «السيدة المعزية» برز بعد وفاة زوجها وخلال خلافة ابنها العزيز حيث بنت في 366 هـ/ 976 م «جامع القرافة»، الذي استمد اسمه من كونه بني في جوار القرافة الكبرى خارج القاهرة، والذي كان ثاني جامع يبنى في القاهرة الفاطمية بعد الجامع الازهر. ولم يكن «جامع القرافة» للصلاة فقط بل كان يقام به السماط في «ليالي الوقود ويقدم الصدقة للفقراء وأهل الاربطة، كما وأُلحق بهذا الجامع طاحون وسبيل للماء.
وقد اشتهرت آنذاك أيضاً «السيدة العزيزية» أو زوجة الخليفة العزيز بالله (365-286 هـ/ 975-996 م)، التي تشير المصادر الى أنها كانت جارية رومية حازت مكانة مؤثرة لدى الخليفة. وتجدر الاشارة هنا الى أن «السيدة العزيزية» كانت مسيحية على المذهب الارثوذكسي، ولذلك فقد اتسمت سياسة زوجها الخليفة بالتسامح الديني وتمكنت من أن تقنع زوجها بتعيين أخ لها مطراناً في القدس وآخر مطراناً في القاهرة.
وترتبط باسم الخليفة العزيز بالله ابنته الاثيرة إليه سلطانة، التي ولدت في المغرب وجاءت الى مصر مع جدها المعز لدين الله، والتي اشتهرت لدى المصريين لاحقاً بلقب «ست الملك» أو «ست النصر». وتشير المصادر الى أن والدها كان يقدّرها ولا يردّ لها طلباً، كما انها تمتعت بثروة كبيرة حتى أن الاقطاعات التي منحت لها كانت تغلّ مئة ألف دينار في السنة. ولما توفي أبوها وتولى أخوها الصغير في الحادية عشرة من عمره الخلافة بلقب الحاكم بأمر الله (386-411 هـ/ 996-1020م) كانت هي في الاربعين وكانت توصف بكونها «مدبرة غزيرة العقل» أو «من النساء المدبرات». ونظراً لصغر سنه وتأثره بالحاشية في البلاط، فقد اتخذ الحاكم بأمر الله سلسلة اجراءات أغضبت المصريين، منها تقريبه للأتراك والبربر وتشديده على النساء حتى أنه أمر أخيراً بعدم خروجهن من البيوت سواء في النهار أو في الليل. ويبدو أن هذه الإجراءات التي أثارت ضده المصريين من رجال ونساء أدت الى خلاف بينه وبين أخته سلطانة، وربما كان من أسباب الخلاف أيضاً قيام الحاكم بأمر الله بنقل ولاية العهد من شقيقها الصغير علي الى ابن عمه عبدالرحيم في 404هـ/1013 م. وقد وصل هذا الخلاف الى مصادرة عقاراتها وحتى اتهامها بالفجور مما دفعها الى التخلص منه بواسطة عبدين ثم أخفت الامر لأيام لتتخلص من ولي العهد عبدالرحيم أيضاً وترتب لابن أخيها الصغير علي تولّي الخلافة وهو ابن ستة عشر عاماً بلقب الظاهر (411-427 هـ/ 1020-1035م)، ولذلك «كانت عمّته ست النصر هي القائمة بأمور دولته».
ومع هذا الانقلاب في البلاط، استردت سلطانة العقارات التي صودرت لها ومارست السلطة على نحو غير مسبوق حتى وفاتها في 415ه/ 1024 م حتى أصبح لقبها «ست الملك» يعبّر عن واقع الحال، حيث إنها «اطلقت النساء للخروج من منازلهن والتصرف في أمورهن... ورتّبت الامور ترتيباً أصلحها وهذّبها». ومع أن المصادر تروي الكثير عن ثروتها وأنها كانت «كثيرة البر والصدقة على المساكين»، إلا انها لا نعرف لها بعد ما بنته من منشآت لها علاقة بذلك.
وقد تكرّر مثل هذا الامر في عهد ابنه الخليفة المستنصر بالله الذي حكم ستين سنة (427-487 هـ/1035-1094 م) نظراً لأنه كان في السابعة حين تولى الحكم، ولذلك فقد لعبت والدته المسمّاة رصد دوراً كبيراً في الصراع على السلطة. وكانت رصد جارية سوداء أسرت قلب الخليفة الظاهر فولدت له المستنصر وجمعت في عهد ولدها الطويل الثروة القوة بعد أن جلبت العبيد السود (السودان) لتواجه بهم العسكر الاتراك مما أدى الى صراع متواصل على السلطة، وانتهى بها الامر الى القبض عليها والاستيلاء على ثروتها الكبيرة.
ولكن «علم الآمرية» أو «جهة مكنون» زوجة الخليفة الآمر بأحكام الله (495-524 هـ/1001-1030 م) التي لم تذكر المصادر أصولها كانت الاشهر في مجال الوقف على المنشآت الدينية والاجتماعية. فقد بنت أولاً في 526 هـ/ 1031 م «مسجد الاندلس» شرق القرافة الصغرى، ثم بنت في 527 هـ/ 1033 م «مسجد السيدة رقيّة» الذي اتخذ مشهداً على سبيل الرؤيا للسيدة رقية بنت الإمام علي بن أبي طالب، والذي لم يبق منه سوى الايوان الشرقي. ويلاحظ هنا أن المصادر اللاحقة قد سكتت عن اسم بانيته لكونها امرأة باستثناء الاشارة العابرة التي أوردها المقريزي في «الخطط»، والتي أكدتها الكتابات على التابوت الخشب وعلى المحراب المتنقل المحفوظ في متحف القاهرة والتي تقول انه «أمر بعمل هذا الضريح المبارك الجهة الكريمة الآمرية في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة». وإضافة الى ذلك تذكر المصادر ان «علم الآمرية» قد بنت أيضاً رباطاً للعجائز والأرامل في القاهرة.
وكانت الزوجة الاخرى للخليفة الآمر بأحكام الله، التي تزوجها لاحقاً ولذلك اشتهرت بلقب «جهة الدار الجديدة»، ممن أنفقن بعض ثروتهن على المنشآت الدينية. فقد بنت في 522 هـ/ 1028 مسجداً الى جوار سقاية ابن طولون اشتهر باسم «مسجد النارنج» الذي سمّي بذلك لأن نارنجه كان لا ينقطع.
وفي عهد الخليفة الحافظ لدين الله ( 525-544 هـ/ 1130-1149 م) قامت زوجته الاولى التي اشتهرت بلقب «جهة ريحان» ببناء مسجد في القرافة الكبرى دعي باسمها (مسجد جهة ريحان) في 522هـ/1128 م، الذي تمّ تجديده في 542 هـ/ 1147م، كما قامت زوجته الاخرى التي كانت جارية مغنيّة واشتهرت بلقب «جهة بيان» ببناء مسجد آخر عرف باسم مسجد جهة بيان.
واضافة الى زوجات الخلفاء، فقد برزت في هذا المجال أيضاً بعض زوجات الوزراء، الذين لعبوا دوراً متزايداً في النصف الثاني من حياة الدولة الفاطمية. ومن هؤلاء كانت بلارة زوجة ابن السلار الوزير السنّي في عهد الخليفة الظافر بالله (544-549هـ/ 1149-1154 م) ووالدة الأمير عبّاس الصنهاجي الذي تولى الوزارة بعده في 548 هـ/ 1153 م، ولذلك اشتهرت بلقب «أم عبّاس». وقد بنت «أم عبّاس» في 547 هـ/ 1152 م مسجداً دعي باسمها (مسجد أم عبّاس) غرب القرافة الكبرى.
* أستاذ الحضارة في جامعة العلوم الاسلاميـة العالمية في عمّان