مثلما السماء مظلة الأرض بصفاءها صيفاً أو بقتامتها شتاءاً، كذلك النفس البشرية لها صفاء أو قتامة تفرضها على الروح والعقل والقلب؛ فسماء الدنيا تلون أرضها، والنفس تلون الروح بالسعادة أو الحزن، بالغضب أو الحلم، بالرضى أو السخط.
ولكن سماء الدنيا لا تبقى قاتمة ولا تبقى صافية؛ بينما النفس البشرية قد تمتد قتامتها لأيام، لشهور بل لسنوات؛ لأنه هناك من لا يستطيع أن يحارب هذه القتامة، هناك من لا يمتلك أدوات طردها وجعل نور الرضى تشرق على روحه، ليس لأن هذه النفس سيئة ولكنها فعلاً لا تستطيع. هدف الانسانية جمعاء هو إيجاد الحلول للمشاكل والحياة برفاهية وبكرامة ثم بحب وعطف ثم الأرقى بإنسجام وألفه مع كل الوجود؛ ولكن هناك من البشر من يجعلون هذا الحلم مستحيل أو شبة مستحيل؛ بشر يجعلون حياة من حولهم جحيماً وكدراً وألماً؛ وهناك بشر مهما إمتلكوا لا يقنعوا ومهما أحبهم من حولهم لايعرف الحب طريقه إلى قلوبهم، بشر يشبهون الصحراء بالجفاف والقسوة بل إن الصحراء تبدو أحياناً وديعة ناعمة منعشة وتخبيء بين جبالها واحة ظليلة نجدها بعد عناء السفر وحين نجدها ننسى التعب والظمأ. لذلك توجد مشاكل لا حل لها، يوجد واقع مؤلم قد نقف عاجزين أمامه، يوجد مرض صعب الشفاء منه، معاناة لا يمكننا التخلص منها، ربما يكون ذلك إبتلاء وربما يكون عقاب، الله وحده يعلم الحكمة بما نسعد به وبما نعاني منه.
ولكن أولئك الذين يرون الحياة من خلال الغيوم السوداء هم أشد البشر معاناة وتعاسة، لأنه لا مكان للنور في أرواحهم ليسوا لأنهم أشرار ولا لئام بل قد يكونوا من أطيب البشر ولكنهم لا يستطيعون إزاحة هذه الغيوم، قدراتهم النفسية أضعف وأرق من ثقل هذه الغيوم النفسية، فيقبعون تحت ثقلها عاجزين بل وأحياناً شبة مدمرين.
وقد تكون المرأة أكثر ميلاً من الرجل لرؤية الحياة عبر هذه الغيوم السوداء، لأنها قد تكون أسيرة ضعف مادي ومعنوي وإجتماعي، ولا تستطيع فعلاً أن ترى الحياة إلا من المنظار الأسود. وهناك ضعف آخر لا علاقة له بالضعف المادي بل ضعف نفسي وتعاسة ذاتية بل وكآبة مزمنة لربما تؤدي أحياناً إلى الإنتحار.
هناك وسائل بسيطة قديمة يمكنها أن تساعد من يرى الحياة عبر هذه الغيوم، إنها ليست نصائح ولا إرشادات طبيب نفسي، إنها أشياء بسيطة من الحياة، كانت تقوم بها الجدات،
ونصائح أخبرتنا عنها الأديان السماوية جميعها. وربما جميعنا يعرفها ولكن هناك فرق جذري يتعلق بها قد لا يعرفه الجميع، بعد إستعراض هذه النصائح سيتم الحديث عنه:
_ حين تحزنين، أبحثي عن شخص آخر حزين، أمنحيه الكلمات العطوفة أو هدية جميلة ؛ وإن لم تجدي الحزين فأبحثي عن الفقير الذي لا يبكي سوى الفقر، ولا ضيق لديه سوى ضيق الجيب لا ضيق القلب.
_ حين تكتئبين، إذهبي إلى أي مستشفى قريبة من بيتك، أجلسي مع المرضى في غرف الفحص والتصوير الإشعاعي وراقبي الوجوة الصامتة الواجلة، ثم إستمعي للبكاء أحياناً أو للدعاء، قلوب لا تريد من الحياة سوى الحياة حتى مع الفقر حتى مع القهر مع كل شيء ولكن مع الحياة.
_ حين تغضبين، أنظري إلى جميع مخلوقات الأرض عدا الانسان والتي تتقبل قضاء الله بشكل أفضل من الانسان، ترضى بالمرض، ولا تتذمر من فقد الأحبة، تحيا الحياة لأنها نعمة الله وهديته دون أن تتذمر ودون أن تشترط على الله ما يكون وما لايكون.
_ حين تغارين، قفي أمام المرآة ونظري إلى وجهك وشعرك وجسدك وكل ما منحك الله أياه من جمال داخلى وخارجي، وأعلمي بأنه لا كمال لأي مخلوق بشري، فمن تغارين منها أو منه ليسوا سوى جزء من الصورة وأن هناك أجزاء أخرى قد تكون شديدة البشاعة لا تعرفينها.
_ حين تسخطين، لابد أن تشعري بالخجل، لأنك في هذه الحياة لكي تعلمي وتدركي نعمة الله في كل هذا الوجود، وأن السخط ليس له سوى السخط وأن الرضى له الرضي، فابتسمي لأنه هناك من هوأسوء منك حالاً .
_ حين تخافين، خوفاً من الحياة أو من الآخر فأنت لم تعرفي الله حق المعرفة، حين تعرفينه حق المعرفة يستوي لديك العصفور والأسد، فلا خوف مع الله ولا قلق، ألم يقل لنا بأنه الحكيم العليم، المدبر والرحيم وهو الوكيل.
ولكن الأهم هو عدم الإستسلام للغيوم السوداء، لأنها تستنزف طاقة الجسد، وتُضعف القدرات العقلية بل تدمر بعض خلايا الدماغ حين تستمر لفترات طويلة، حتى أن من يصابون بمرض الزهايمر عدد كبير منهم تعرض لصدمات عاطفية ونفسية على مدار سنوات طويلة، فالغيوم السوداء في الدماغ والنفس ليست مجرد ألوان قاتمة بل عامل هام بالتأثير على الصحة الجسدية والفكرية، وقد أثبتت الدراسات العلمية أن من يعاني من الكآبة يكون إنتاجه الفكري والمهني أقل ممن لا يعانون من هذه المشكلة.
الغيوم السوداء ليست مسألة شعرية أو شعورية هي فعلاً حقيقة علمية تمس شريحة واسعة في المجتمع قد تتحدث عما تعاني منه وقد لا تتحدث، ولكن إدراك خطورتها سواء للشخص ذاته أو لمن حوله مسألة هامة وتؤثر على أسر بأكملها.
ربما نعرف جميعاً كل هذه النصائح، ولكن الفرق الجذري هو في اليقين بأن الله هو المحبة والعطاء، وأن كل ما نقدمه للآخر لا قيمة له إن لم يكن تعبير عن الحب، حب الآخر ثم حب العطاء بحد ذاته. الفرق الجذري هو أن نسعد لأننا أحياء وأنه لا يزال هناك صباح آخر نبادر به بالخير والمحبة والمغفرة إن إستطعنا؛ الفرق الجذري هو أن كل هذه الحياة بعظمتها ، بسعتها، ليست سوى عالم صغير يقبع في قلب كل منا، قد نجعل منه عالماً مظلماً أو عالم من النور، لا نختار واقعنا ولكننا نختار ما نفكر به تجاه هذا الواقع. وحين تتسائلين، أعلمي بأن الله خير وأن الوجود خير، وأنه بأحيان كثيرة خلف المصائب الكبيرة هناك حكمة عظيمة ورحمة عميمة.
إن أردتِ أن تحي هذه الحياة بسعادة لابد أن تتعلمي ومن جديد أن تكوني طفلة ألقت بكل عبء الأشياء وثقلها أمام باب الرحمن الرحيم، فهناك غيوم سوداء ثقيلة صعبة لن يستطيع أي بشر زحزحتها ، فقط الوقوف بباب الله واللجوء إليه كفيل بأن يزحزح هذه الغيوم وأن يحول الظلام إلى نور.
نحن في عصر تتسارع به الأشياء، نغرق بالماديات، تجرفنا المشاحنات، نغضب للقليل وللكثير، نطمح أيضاً للقليل وللكثير، نشعر بتعب القلوب والأرواح رغم رفاهية الحياة، لذلك نحن بأشد الحاجة ليس للحب فقط، فالحب شيء خاص بين طرفين أو بين طرف وعائلة، ولكن الرحمة تشمل كل الوجود، الرحمة لمن حولك، للجار، للصديق، حتى لعابر السبيل. فلنكن كالأشجار الوارفة حين يشتد القيظ ، فالجميع يركض بإتجاه الأشجار الوارفة حين يشتد القيظ حتى ولو لم تكن مثمرة؛ أي أنكِ لن تعطي كل شيء وقد لا تعطي شيئاً ولكن يكفي بعضاً من الرحمة وشيئاً من الحب ثم قليلاً أو كثيراً من الرضى فتتبدد الغيوم السوداء، وتشفى الروح السقيمة.