يبدو الحديث عن الكتابة النسائية وعلاقة المرأة بالممارسة الإبداعية حديثا شائكاً، ومغامرة محفوفة بالمخاطر، لأن هذا المصطلح ما زال يثير جدلا واسعا في المشهد الثقافي المصرى بشكل خاص والعربى بشكل عام، وهذا الجدل مرتبط بتخصيص هذه الكتابة بأنها نسائية، خاصة وأننا لا نلجأ إلى هذا التخصيص عندما يتعلق الأمر بأعمال إبداعية أخرى، كما أن هذا التصنيف جاء على أساس جنسي وليس موضوعياً، لذلك كانت هذه التسمية مرفوضة وغير مقبولة لدى الكثير من الباحثات والمبدعات، فكثيرون هم من استهواهم الحديث عن المرأة كمبدعة وفاعلة ومنتجة للإبداع، وقليلون من عالجوا أعمالاً إبداعية نسائية من خلال معالجة العمل الإبداعي باعتباره نتاجا إبداعيا خالصا، يماثل النصوص القصصية الرجالية - إذا جاز لنا التعبير.
ولكن تظل هناك نساء استطعن أن يخرجن من عنق الزجاجة، ويحفرن أسماءهن على جداريات الوطن، فصرن هن الحاضرات الغائبات، من هؤلاء النساء الكاتبة والروائية والناقدة والمناضلة السياسية لطيفة الزيات والتى تحتفى الأوساط الثقافية هذه الأيام بذكرى مولدها، لطيفة الزيات التى فتحت الباب، من خلال روايتها الأبقى «الباب المفتوح» منذ أن صدرت عام 1960 وحتى ثورة 25 يناير 2011، والتى لم تشهد الزيات بزوغها، ولكن الأكثر قرباً من المنطق عليه أن يوقن إن غالبية من خرجن من النساء فى هذه الثورة، وكل ما تلاها من حراك سياسى شهدته مصر، لابد وأنهن قد خرجن من بابها المفتوح.
ولكن هل لطيفة الزيات السياسية هى التى قادت لطيفة الزيات الروائية؟ أم حدث العكس، من منهما ولدت أولاً؟ ومن قادت الثانية؟ الأكيد ان لطيفة الزيات التحقت بالحركة الماركسية وهي مازالت طالبة بالجامعة، حيث تقول عن ارتباطها بالماركسية: «كان تعلقي بالماركسية انفعاليا عاطفيا».
دخلت الزيات اللجنة الوطنية للعمال والطلبة بتنحي الوطني المناضل الماركسي سعد زهران عن موقعه في اللجنة كممثل لأحد التنظيمات المهمة فى ذلك الوقت، وذلك لإتاحة الفرصة للطيفة الزيات وتشجيعا للطالبات في الكفاح الوطني، وعلى أية حال فإن «لطيفة الزيات» ظلت في اللجنة لفترة محدودة لأن اللجنة نفسها عاشت مدة وجيزة حيث تصاعدت المحاولة للتنسيق بين حركة الطلاب وحركة الطبقة العاملة، ونشأت اللجنة بدعم أساسي من اللجنة التنفيذية العليا للطلبة التي كانت وفدية وبقيادة «مصطفى موسى»، وكانت قد أعلنت في ديسمبر عام 1945. وتوحدت جهود لجنة الطلبة الوفديين مع ممثلين لحلقات ماركسية ثلاث هي «الفجر الجديد» التي كانت تؤمـن بقيادة الوفد للحركة الوطنية، وتنظيم «إسكرا – الشرارة» و«الحركة المصرية للتحرر الوطني – حدتو»، وانتهت اللجنة بعد فترة وجيزة من تكوينها واختلف المحللون حول أسباب عدم استمرار اللجنة، قيل إن أحد أهم الأسباب هى عزلتها عن الفلاحين، فلم تأخذ الحركة شكل «الجبهة الوطنية»، وقيل إن الصراع بين المجموعات الماركسية الثلاث داخل اللجنة مما وضع العراقيل أمام حركة اللجنة، ونشأت فكرة تشكيل لجان الجبهة، وبدأت الاحتفالات السوفسطائية بين الجماعات اليسارية.. هل هي جبهة وطنية أم ديموقراطية أم شعبية، وابتعدت عناصر القوى الشعبية عن هذه المناقشات العقيمة وانتهى الأمر بضربات من نظام يوليو على المحاولات الوليدة لتكوين الجبهات المتصارعة.
لم تكن لطيفة الزيات مناضلة سياسية على المستوى الداخلى فقط فقد كان لها دور كبير ضد الاحتلال الانجليزى، سعت لتوثيقه بوضوح من خلال روايتها «الباب المفتوح» والتي تعد واحدة من أولي الروايات التي تنصر قضايا المرأة, خاصة إنها كانت في مرحلة مبكرة من الروايات النسوية، والتى سجلت من خلالها دورها فى النضال ضد الاحتلال الانجليزي في معارك بورسعيد عام1956, والتى يقول فيها النقاد انها البداية الفعلية التي فتحت الطريق أمام الرواية الواقعية للكاتبات المصريات، وجعلت لطيفة الزيات أحد أهم رواد التيار الواقعي في الرواية المصرية في الخمسينيات من القرن العشرين، حيث تعكس الرواية الفترة من 1946 إلى 1956 ومقاومة الشعب المصري للاستعمار الإنجليزي ومعركة بورسعيد، وتؤكد أهمية الالتحام الشعبي والترابط بين كافة أفراد الشعب المصري في سبيل الدفاع عن الوطن، وقد غطت الرواية فترة هامة في تاريخ مصر الحديث، وتخطت الاهتمام بالقضايا السياسية إلى الاهتمام أيضا بالقضايا الاجتماعية آنذاك والتي تمثلت في التأكيد على أهمية مشاركة المرأة مع الرجل في الدفاع عن مصر وأن تخرج المرأة من عزلتها ومن داخل الأسوار التي فرضتها عليها الأعراف والتقاليد، فاهتمت الكاتبة بالربط بين القضايا السياسية والاجتماعية، بل والثقافية والتأكيد على دور المثقفين في التعبير عن الموقف العام للوطن، فالقضية في نظر لطيفة الزيات أكبر من كونها سياسية، فهي تتعداها لتكون قضية تأتي الرياح بما تشتهى السفن لعامة تشمل مختلف جوانب المجتمع المصري آنذاك، وتصل الكاتبة من خلال مسيرة بطلتها «ليلى» في نهاية العمل إلى حدث المظاهرة في بورسعيد والذي يؤكد فكرة الالتحام والترابط بين كافة أفراد الشعب.
لم تعتد لطيفة الزيات الإبحار على الشواطئ، فقد اعتادت الغوص حتى وإن لم تات الرياح بما تشتهى السفن، فقد تعرضت لطيفة للاعتقال سنة 1981 ايام الرئيس أنور السادات فكتبت سيرة ذاتية بعنوان «حملة تفتيش» عن ظروف اعتقالها، وحسبما ذكرت في هذه السيرة، أن السبب فى اعتقالها كان دورها في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية التي رأسها المناضل الكبير عبد العظيم أنيس، والتي أصدرت مجلة دورية اسمها «المواجهة « كانت حائط صد مهما وقويا ضد جهود التطبيع الثقافي مع إسرائيل، وعلى هذا فتعد لطيفة الزيات من رائدات الكتابة فى السيرة الذاتية، حيث سيرتها تعد بحق واحدة من ابرز السير الذاتية العربية, خاصة من حيث البناء الفني الذي يمزج بين السيرة وفن الرواية، فقد كتبتها فى وقت لم تكن المرأة المصرية اعتادت علي كتابة السير الذاتية، ولم يسبقها في هذا المجال سوي الدكتورة نوال السعداوي، وقبلهما كانت بنت البادية ملك حفني ناصف وعائشة عبد الرحمن فى «على الجسر».
وعلى الرغم من اننا أمام شخصية ماركسية تماماً، فقد كان أول مشروع زواج لها مع عبد الحميد عبد الغني الذي اشتهر باسم عبد الحميد الكاتب، والذى لم يكن ماركسيا أبداً، بل كان زائراً منتظماً للمساجد ويحفظ التاريخ الإسلامي تماماً، ومع ذلك فقد ارتبط الاثنان بخاتم الخطوبة، لكن القدر لم يسمح لهذا المشروع أن يتم، وقد سجل عبد الحميد الكاتب بنفسه هذه الفترة في مقال باكر له في الصفحة الأخيرة من جريدة «أخبار اليوم» تحت عنوان «خاتم الخطوبة» يؤكد فيه شخصية الزيات الجميلة.
أما تجربتها ثانية فقد كانت أكثر قرباً لشخصيتها، فارتبطت بالزواج بأحمد شكري سالم، وهو أول شيوعي يحكم عليه بالسجن سبع سنوات، وتم اعتقال أحمد ولطيفة عام 1949، تحت ذمة القضية الشيوعية، ولكن يبدو أنها لم تكن قد وجدت ضالتها بعد، فانفصلا بالطلاق.
ثم يأتي زواجها من الدكتور رشاد رشدي متشدد المنشأ والفكر والسلوك، كخبر صادم لكل من خبر لطيفة الزيات، ولكنها لم تترد أن تقول لمعارضي هذا الزواج: «إنه أول رجل يوقظ الأنثى في»، وعندما اشتدوا عليها باللوم قالت: «الجنس أسقط الإمبراطورية الرومانية».
ولدت لطيفة الزيات في مدينة دمياط 8 أغسطس 1932، وتلقت تعليمها بالمدارس المصرية, ثم بجامعة فؤاد الأول، بدأت عملها الجامعي منذ عام 1952, وحصلت علي دكتوراه في الأدب من كلية الآداب, بجامعة القاهرة عام1957، وتولت رئاسة قسم اللغة الإنجليزية وآدابها خلال عام 1962, إضافة إلي رئاسة قسم النقد بمعهد الفنون المسرحية, وعملت مديرا لأكاديمية الفنون، كما شغلت منصب مدير ثقافة الطفل, ورئيس قسم النقد المسرحي بمعهد الفنون المسرحية 1970-1972, ومديرة أكاديمية الفنون 1972-1973، وعملت أستاذة للأدب الإنجليزي بكلية البنات جامعة عين شمس, وحازت علي جائزة الدولة التقديرية للأدب عام 1969.
كانت لطيفة عضو مجلس السلام العالمي، وعضو شرف اتحاد الكتاب الفلسطيني، وعضوا بالمجلس الأعلى للآداب والفنون، وعضو لجان جوائز الدولة التشجيعية في مجال القصة، ولجنة القصة القصيرة والرواية، كما أنها كانت عضوا منتخبا في أول مجلس لاتحاد الكتاب المصريين، ومثلت مصر في العديد من المؤتمرات العالمية.
نشر لها العديد من المؤلفات الأكاديمية، والترجمات، كما صدر لها مؤلفات إبداعية، منها الباب المفتوح عام 1960، الشيخوخة وقصص أخرى عام 1986 حملة تفتيش – أوراق شخصية، عام 1992 مسرحية بيع وشراء عام 1994، صاحب البيت عام 1994، الرجل الذي يعرف تهمته عام 1995، إضافة إلى العديد من الأبحاث، في النقد الأدبي الإنجليزي والأمريكي، كما ساهمت بالكتابة في المجلات الأدبية، وتوفيت لطيفة الزيات عام 1996 تاركة وراءها تاريخاً حافلاً من الإبداع.