الإحسان هو أحد مقامات الدين الحنيف ، التي وردت في حديث سيدنا عمر المشهور والصحيح ، لما دخل عليهم في مجلس الرسول الأعظم رجلٌ شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يعرفه مهم أحد ولا يظهر عليه أثر السفر ، وجلس متأدبا بين يديْ رسول الله وأسند ركبتَيْه إلى ركبتيْه ووضع يديه على فخذي رسول الله ، وسأل عن الإسلام فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت ، فقال السائل : صدقت !
وعجب الصحابة كيف يسأله ويصدقه ، ( عرفوا أنه ممتَحِن أو معلِّم ) ! ثم سأل عن الإيمان ثم عن الإحسان ؟ فقال له النبيُّ الأعظم :
(الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإلّم تره فإنّــه يراك ) . ثم ودّعهم وانصرف ...
فقال لهم رسول الله : هذا جبريل جاء يعلّمكم أمور دينكم ...
وقال كُثيِّر:
أَسِيئي بنا أَو أَحْسِنِي، لا مَلومةٌ لَدَيْنا، ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ .
وقوله تعالى: وصَدَّقَ بالحُسْنى؛ قيل أَراد الجنّة، وكذلك قوله تعالى : ( للذين أَحْسَنوا الحُسْنى وزيادة ) ؛ فالحُسْنى هي الجنّة، والزِّيادة النظر إلى وجه الله تعالى. ابن سيده: والحُسْنى هنا الجنّة، وعندي أَنها المُجازاة الحُسْنى.
والحُسْنى: ضدُّ السُّوأَى .
والإحسان من الجذر الثلاثي ( ح س ن ) ، قال صاحب اللسان :
الحُسْنُ : ضدُّ القُبْح ونقيضه . الأَزهري: الحُسْن نَعْت لما حَسُن؛ حَسُنَ وحَسَن يَحْسُن حُسْناً فيهما، فهو حاسِنٌ وحَسَن؛ قال الجوهري : والجمع مَحاسِن، على غير قياس ، كأَنه جمع مَحْسَن .
وحكى اللحياني : احْسُنْ إن كنتَ حاسِناً (بضم السين ) ، فهذا في المستقبل ، وإنه لَحَسَن ، يريد فِعْل الحال ، وجمع الحَسَن حِسان . وقال الجوهري : تقول قد حَسُن الشيءُ ، وإن شئت خَفَّفْت الضمة فقلت : حَسْنَ الشيءُ ، ولا يجوز أَن تنقُل الضمة إلى الحاء لأَنه خبَرٌ، وإنما يجوز النقْل إذا كان بمعنى المدح أَو الذَّم لأَنه يُشَّبه في جواز النَّقْل بنِعْم وبِئْس ، وذلك أَن الأَصل فيهما نَعِم وبَئِس ، فسُكِّن ثانيهما ونقِلتْ حركته إلى ما قبله ، فكذلك كلُّ ما كان في معناهما ؛ قال سهم بن حنظلة الغَنَوي:
لم يَمْنَعِ الناسُ مِنِّي ما أَردتُ، وما *** أُعْطِيهمُ ما أَرادوا، حُسْنَ ذا أَدَبا .
أَراد: حَسُن هذا أَدَباً ، فخفَّف ونقَل .
ورجل حَسَنٌ بَسَن : إتباع له ، وامرأَة حَسَنة ، وقالوا : امرأَة حَسْناء ولم يقولوا رجل أَحْسَن ، قال ثعلب : وكان ينبغي أَن يقال ، لأَنَّ القياس يوجب ذلك ، وهو اسم أُنِّث من غير تَذْكير، كما قالوا غلام أَمرَد ولم يقولوا جارية مَرْداء ، فهو تذكير من غير تأْنيث . قلنا:
لم يؤنّثوا لأنّ المَرَدَ ميلٌ باتجاه الأنوثــة !
ألا ترى أنهم لم يقولوا : امرأة حائضة ، إلا إذا كانت متلبِّسـة بحالة الحيض ، لماذا ؟
الحيض بالأصل من خواص الأنـوثــة ، ولا يوجد رجل حائض ، وأضيف : كذلك في قولنا : امرأة نفساء ، لا نقول : رجلٌ أنْفَس ، والقياس يقتضيه ، لأنها حالة من لوازم الأنثى !
والحُسّان ، بالضم: أَحسَن من الحَسَن. قال ابن سيده: ورجل حُسَان، مخفَّف، كحَسَن، وحُسّان، والجمع حُسّانونَ؛ قال سيبويه: ولا يُكَسَّر، استغْنَوْا عنه بالواو والنون، والأُنثى حَسَنة، والجمع حِسان كالمذكر وحُسّانة؛ قال الشماخ :
دارَ الفَتاةِ التي كُنّا نقول لها: *** يا ظَبْيةً عُطُلاً حُسّانةَ الجِيدِ .
وقالَ تعالى في سُورة يُوسفَ/ ١٠٠: (( وقد أحسنَ بي إذْ أخرجني من السِّجن )) .
- والسُّؤال: لمَ ذُكِر إحسانُ الله بيوسفَ في إخراجه من السِّجن، ولم يُذكَرْ الإحسان في إخراجه من البئر ؟ رغم أنَّ الإخراج من الجبِّ أهم وأحق بالذكر من منظورنا البشري ؟
و الإجابة :
- لم يُذكَرِ الإحسانُ في إخراجه من البئر؛ لأنّه أُخرِج منه إلى الرِّقِّ والعبوديّة ، ثمَّ إلى السِّجن بتُهَمةٍ مُخلَّةٍ بالشَّرف ، فلا يكون في ذلك مِنّةٌ وإحسان .
وأمّا إخراجه من السِّجن ، ليكون عزيزَ مصرَ ، فهو الإحسانُ بتمامه ، ولذا ذكرَه .
- ومن اللَّطائف النَّحْويّة في هذه الآية أنّه عدَّى الفعلَ أحسنَ بغير حرف الجرِّ المختصِّ به ، إذ لا نقول: أحسنَ بي ؛ وإنّما نقول: أحسنَ إليَّ ؛ لكنّه لمّا كان الفعل أحسنَ هنا بمعنى الفعل لطُفَ، وكنتَ تُعدِّي الفعل لطُف بالباء، جئتَ بـالباء مع الفعل أحسنَ، إيذاناً وإشعاراً أنّه بمعناه، لتجمعَ معنى الفعلين في آن واحد .
إذن : هو إحسانٌ ولُطْفٌ به من الله تعالى . وهذا ما يُسمَّى : التَّضمين النّحْوي .
وفي الإحسان ، هذه الحكاية أيضا :
قيل لأعرابية معها شاة جاءت بها السوق لتبيعها : بكم تبيعينهــا ؟
قالت : بمئة !
قيل لها : أحسني !
فتركت الشاة ، وهمَّتْ بالانصراف…
فقيل لها : ما هذا أردنا ؛ انما أردنا أن تنقصي الثمن .
فقالت : لم تقولوا : أنقصي ؛
وإنما قلتم : أحسني !
واﻹحسان هو ترك الكل هكذا هي اللغة ...
وهكذا نستطيع أن ندرك لماذا ســمَّـى الله تعالى أسمى مقامات الدين باسم مقام الإحسان ، إنَّه الأحسن والأرقى والأكمل والأســمى ، وســمَّـاه بعض علماء التوحيد ( مقام الهجرة ) ، وهو أن تعبد الله كأنَّك تراه ، فإنْ لم تكن تراه فهو يراك .
ومن الشواهد هنا أنَّ رسول الله مرَّ بالحارثة فسأله كيف أصبحت يا حارثة ؟ فقال الحارثة : أصبحت مؤمناً حقاً يا رسول الله, فقال (صلى الله عليه وسلم) : لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال الحارثة :
لقد عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني انظر إلى عرش ربي بارزا , وكأني أرى أهل الجنة في الجنة يتزاورون وكأني أرى أهل النار في النار يتعادون أو يتعاوون ,فقال عليه الصلاة والسلام نوّر الله قلبك عرفت فألزم .
من هذا الحديث يتبن بأن للأيمان حقيقة وصورة ، فإذا ما كانت حقيقة الإيمان في قلب العبد فلا بد من إن تكون هناك شواهد تدل على ذلك لأن الأيمان ليس مجرد كلام باللسان ، إنما هو قول وعمل واعتقاد قلبي .
وأشير أخيراً أنَّ الحديث الشريف الشاهد هنا هو من الأحاديث الضعيفة ، رواه البزار وفيه يوسف بن عطية ، والله أعلم .