احتلت المرأة عبر التاريخ مكانة محورية في كل المجتمعات الإنسانية، مهما كانت طبيعة تلك المجتمعات وديانتها، فلا يقوم مجتمع بدون امرأة، وهذه بدهية وحقيقة واقعية لا تحتاج إلى طرح أو تذكير، وعليه وُجِد التفكير في دور المرأة ضمن هذا السياق الطبيعي لوجود المجتمعات.
وتجاوزا عما قيل في حق المرأة في الأدبيات الفكرية والفلسفية والدينية قديما وحديثا إلا أن المرأة حتى وهي تمارس أوضاعا اجتماعية دنيا أو فرضت عليها تلك الأوضاع الاجتماعية الدنيا لم يحدث أن تخلت المرأة عن واجباتها في بناء المجتمعات الزراعية والصناعية وحتى مجتمعات ما بعد الحداثة، وما نتج عنها من أفكار وحقائق جديدة.
وما بين طرفي المعادلة الإنسانية الممتدة ما بين البدهية الطبيعية والتطور الحديث، تعود الأسئلة المؤرقة للظهور مرة أخرى؛ من مثل: هل ينحصر دور المرأة فيما هو معروف تقليديا بالحمل والإنجاب والتربية؟ وهل هذا الدور لو اقتصرت عليه المرأة سيقلل من شأنها أو من أهميتها؟ وهل هناك تعارض بين دورها التقليدي هذا والأدوار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأخرى؟ وهل هي فعلا عبر تاريخها اقتصرت على هذا الدور التقليدي؟
لا بد من التعريج أولا على إقرار جملة من الحقائق التي تؤسس لفكرة وجود المرأة في المجتمع، إذ إن الكون بأجمعه قائم على ازدواجية الذكر والأنثى، وليس المخلوقات الحية فقط، ولذلك فإن المرأة طبيعيا ستتقاسم الأدوار الاجتماعية كلها مع الرجل حتى الحمل والإنجاب والتربية! فيفترض تحقق هذا الدور وجود رجل مشارك في تجسيده، وقد سار هذا الدور بسلاسة ومنطقية عبر التاريخ، ولم يحدث أي زعزعة في تلك الأسس المتواضع عليها، والتي فرضتها الفطرة السليمة في الإحساس العقلي والوجداني المتبادل بين طرفي العلاقة المنتجة للأطفال، ومن ثَمّ تقاسُم دور التربية، فلم يحدث في التاريخ أن كانت مهمة التربية والاهتمام والرعاية منصبة على طرف دون طرف، أسوة ببقية المخلوقات، فالطرفان يربيان معا كما ينجبان معا، والأمثلة لن تعجز أحدا، وتجنبا للإطالة لن أضرب الأمثلة على تحقق هذه البدهية الطبيعية.
إذن، لم تكن هذه المهمة التقليدية محصورة في المرأة في أي عصر من العصور، ولا في أي مجتمع، ولا في أي دين مهما كان مصدره، وبغض النظر عن شكل تَحَقُّق الفكرة على أرض الواقع إلا أنه دور طبيعي مشترك، وهذا بطبيعة الحال لم يقلل من عمل المرأة ودورها، إذ إنه دور فطري للرجل والمرأة على حد سواء، ولن يلحق المرأة عار لو قامت فيه! وقد مارسته مع أنها لم تتخل عن أدوار أخرى أساسية من مشاركات سياسية وعسكرية واجتماعية وأنشطة اقتصادية، وليس صحيحا ألبتة أن المرأة قد تمّ حصرها في زاوية من التفكير، وفرض عليها ممارسة هذا الدور التقليدي غصبا عنها وتفردت به، إذ لا يعقل ذلك ولا يصح إطلاقا لأنه يتنافى مع الطبيعة البشرية.
هذا الواقع الذي انطلقت منه المرأة عبر تاريخها وضمن مواضعات اجتماعية وفكرية ودينية نظمت دورها (التقليدي) ليتناغم مع الأدوار الرئيسية الأخرى، وأتجنب هنا عن قصد وصف تلك الأدوار (بالثانوية)، إذ إنها ليست كذلك فهي أدوار تسير بتلقائية وتنظيم لتعطي المجتمع سماته الفكرية التي هو عليها، فأكثر المجتمعات وصفا بالتخلف لم تستطع أن تحصر المرأة في ممارسة الدور التقليدي، ولن تستطيع أي حضارة كذلك أن تجبر المرأة أن تتخلى عن دورها التقليدي لصالح أدوار أخرى رئيسية ولكن، ماذا صنعت الحضارة الحديثة بالمرأة وكيف أوصلتها إلى هذه الدرجة من اللهاث خلف متطلبات إشباع حاجات متوالدة لن تنتهي؟!
لا شك أن الحديث هنا وفي هذه النقطة سيكون حساسا ومهما، إذ إن العالم كله يعيش في ظل حضارة رأسمالية لا ترحم، جعلت كل أفراد المجتمع يسيرون خلف متطلبات عيش متراكمة لا تنتهي، ما إن تنتهي حاجة حتى تبرز حاجات، وهكذا تضاعفت الأحمال الملقاة على كاهل الطرفين الرجل والمرأة على حد سواء، وصارا يعملان دون توقف من أجل مسايرة تلك المتطلبات وتحقيقها تباعا، مما أثر تلقائيا على ذلك الدور التقليدي في الحمل والإنجاب والتربية، فغدت العملية عند تلك الأسر تدور في فلك تلبية الحاجة الملحة للإنجاب وخاصة عند المجتمعات الإسلامية، وتراجعت هذه الحاجة عند مجتمعات أخرى بنسب تتفاوت حسب اعتبارات معينة، ولم يعد هناك الوقت الكافي للتربية بمفهومها التقليدي، فبرز مفهوم جديد للتربية، يربي الفرد ذاته عبر مشاهداته، دون توجيه ومتابعة من الوالدين مباشرة، وأصبح للعيش الأسري مفهوم مفتت، إذ إن الأفراد المنضوين تحت مظلة البيت الواحد هم كائنات منفصلة إنفصالية وفردية، الكل يسعى لتلبية احتياجات مادية دون النظر إلى احتياجات أخرى، ولم يكن التأثير فقط على الأسر الغربية، بل تشترك فيه كل الأسر شرقيها وغربيها بدافع التأثر والتأثير والأفكار المعولمة.
وهكذا برزت مفاهيم جديدة للأسرة وتلاشت مفاهيم اجتماعية كانت أكثر حضورا وخاصة فيما يتعلق بالعمل الجماعي والقيمة المجتمعية والاشتراك الوجداني مع المحيط الأكبر في العائلة الممتدة والحي والقرية، وصولا إلى الاهتمام بالهم العام، وبالتالي فإن الحضارة الحديثة صاغت البشرية بوعي جديد قوامه الفردية المطلقة والسعي وراء متطلبات لا تنتهي، وكأن البشرية اليوم أصبحت تعيش عصر العبودية بمفهوم جديد، فأصبح السيد المالك هو الفكرة والمُسْتَرَقّ هي البشرية بمجموعها، ليس الأمر مقتصرا على المرأة دون الرجل.
لقد خسرت البشرية كثيرا جراء تلك الحضارة المستبدة القاسية التي لم تكن لتراعي أية ظروف غير طبيعية، أو أي حاجات إنسانية روحية، وظلت أفكارها تدور في حلقة اللهاث المسعور لتحقيق ماديات غير متناهية. لذلك من الطبيعي ألا يشعر الإنسان بطعم عمره وألا يجد فيه لذة، فهو لن ينتبه لوجوده إلا إذا أصبح راقدا على سرير الموت أو سرير المرض، عندها يتذكر كم كان إنسانا شقيا لم يعش الحياة كما يجب أن تكون!