لا نحب التقدم في السن، نعتقد بأن جمال الحياة هو مرحلة الشباب، وما قبل ذلك هو طفولة أو أضغاث أحلام لوجودٍ مضى، وما بعد ذلك هو بداية الشيخوخة ثم الشيخوخة بكل تصلبها ومرارتها.
ولكننا لكي نفهم ما هو التقدم بالسن لابد أن نسأل أنفسنا: ماذا لو متنا ونحن صغار السن؟ وما الفرق بين أن يموت الانسان كبيراً أو صغيراً بما أن النتيجة واحدة ألا وهي مغادرة الحياة؟ هناك فروق نعرفها جميعاً ومنها أن الموت صغيراً يعني ذنوب أقل، وإستمتاع بالحياة أقل. وأن من يغادر صغيراً يترك شوقاً لا ينطفيء ومن يغادر كبيراً قد يتمنى من حوله أن يغادر سريعاً.
ولكن هناك فرق جذري، أن من يتقدم في السن يتقدم في الحياة، يعرف أكثر، يشعر أكثر، قد يتألم أكثر قد يشقى أو يسعد أكثر، ولكن تلك المعرفة الأكثر بالحياة هي ما بحث عنها الفلاسفة والحكماء والعقلاء. التقدم بالسن مع الحكمة يعني أن تستمع بالحياة أكثر، أن تراقب كل ما حولك بإنبهار من يحيا منذ قرون ولكنه يستيقظ كل يوم مبهوراً بإعجاز الله في الوجود.
التقدم بالسن هو أن ترى تغير من حولك، تغير ذاتك، تبدل الحياة، بل ولربما تكون شاهداً على زوال الجبال بعد أن تتعرض لسنوات من التعرية. ولربما تكون شاهداً على جفاف الأنهار أو ولادة جداول أخرى جديدة. السن هو أن تكون شاهداً وليس فقط مراقباً، أن تشاهد وتشهد بأن ما كان لم يعد موجود، وأن ما كان موجود لم يعد كما كان؛ وأن كل المشاعر الجياشة لشخصٍ ما بحياتك تتحول لشيء يشبه الرماد ليس لأنك توقفت عن حبه ولكن ولأنه فعلاً أنت لم تُخلق لكي تعشق أو لكي تكون معشوقاً، وان الله تعالى منحك العشق للآخر كي تتعرف على نفسك وعلى الذات الإلهية من خلال هذا الشعور الذي منحك إياه الله تعالى؛ فهل مشاعر الحب هي من إبداع الانسان أم من آيات خلق الله تعالى للبشر!
لقد رزقنا الله النعم المادية وهي ما نفكر بها أغلب الوقت ولكنه منحنا نعماً معنوية ننساها لأنها غير مرئية ولأنها لا ثمن لها في عالم المادة؛ منحنا الحب، الصدق الأخلاص، التضحية ومعاني كثيرة لم تكن لتوجد بذات أي منا لولا أن الله تعالى زرعها بذرة ندية في أعماقنا، فمنا من صانها وأعتنى بها ومنا من سحقها.
التقدم بالسن هو أن تمتلك الوقت والعمق بأن تفكر بكل هذه المعاني؛ أن تبتسم كل يوم وتقول لذاتك الآن فقط فهمت، وتضحك لما كان يُحزنك وقد تبكي لما كان يُضحكك. وهذا الفهم العميق للحياة يتطلب سنوات من الحياة، من التعلم، من التضحية، من الحب، وربما الألم والمعاناة؛ ولكنه تعلم ثم يتحول لتعليم حين تتقن فهم الحياة، وتنقل ما فهمته لمن أصغر منك سناً. ولهذا يبدو أن الجيل الشاب يشعر بحالة من الضياع لأنه فقد الصلة مع الجيل كبير السن، لأنه يريد أن يحيا حياته من تجربته الخاصة، ومهما كانت هذه التجربة عميقة إلا أنها تفتقد للجذور فتبقى في مهب الريح.
الحكمة تقول لك بأن التقدم بالسن سعادة حين تريد أن تفهم، أما إن كنت تريد أن تستمتع فلن تأتيك الحكمة لأنها أبعد ما تكون عن المتع الحسية. الحكمة تقول لك بأن تراقب وتتأمل وتفكر بخالقك قبل أن تفكر بالمخلوقات، لأن المخلوقات فانية راحلة أما الخالق فهو الباقي والدائم. الحكمة تقول لك بأنك لم تُخلق عبثاً وأنك هنا لرسالة هامة ونبيلة، أما الهوى فيقول لك بأنك هنا للسعادة، للمتعة جمع المال والأشياء ومرافقة الوجوه التي تحب والتي لا تحب فقط كي تكون النجم الأكثر ثراءاً أو شهرةً أو جمالاً. ولكن المشكلة هي أنه مع التقدم في السن، لن تستطيع أن تبقى نجماً، فلو كان لديك المال ربما لن يستطيع جسدك أن يفعل ما يريد؛ ولو كنت الأكثر شهرةً فهناك من سيأتي أصغر وأجمل وأكبر موهبةً منك، أما الجمال فهو زائل قبل أن تزول أنت من الحياة.
إن لم تكن لديك متعة تذوق فهم الحياة، فلتحذر من أن تنتهي وحيداً حتى ولو كان حولك عشرات الأشخاص. إن لم يكن لديك الفضول لفهم الحياة حتى آخر لحظة من وجودك فأحذر من الغباء الذي يأتي مع التقدم بالسن، وهو غباء يختلف عن غباء الشباب إنه غباء من لا يسأل لماذا وكيف وأين، هو أن يموت الفضول والتساؤل في عقلك وأن تعيش لتأكل وتشرب وتنام. إن لم تكن تحب تأمل الوجود وملاحظة تغير الأشياء والوجوه وحتى تغيرك أنت فأحذر من أن تتفاجيء ببشاعة الأشياء من حولك، فالحكمة فقط يمكنها أن تجعلنا نرى ما هو بشعاً جميلاً لأنها تنظر أبعد مما ترى العين المجردة. إن لم تستطع أن ترى أعماق الأشياء وأبعادها من حولك، فأحذر من ضيق الأماكن التي تعيش بها ولو كانت قصراً، فلكل ما في الوجود عمقاً لا متناهياً وبعداً لا حدود له.
إعتقادنا بأن تقدمنا في السن مدعاة للحزن، للقنوط، للكآبة، هو ما يجعلنا نبتعد عن حقيقة الوجود، فحقيقته هي أن تتقدم مع الحياة، أن تفهم أكثر، أن تعي أكثر، أن تحب أكثر، أن تسامح أكثر والأهم أن تعرف الله تعالى أكثر من خلال التجربة والمعرفة، من خلال الدقائق، الأيام والسنوات التي منحك أياها في هذا الوجود كي تفكر وبه وتعرفه، ليس فقط من خلال التعاليم الدينية بل خلال معرفتك الروحية له، وأن تدرك بنهاية رحلتك في الحياة أنك من الله وإلى الله؛ وأن حياتك، كل حياتك لم تكن سوى رحلة تعلم وفهم لكي تعرف وتتعرف على خالقك. فإن لم يكن التقدم بالسن بهذا الإيمان وبهذه النورانية فسوف يكون فعلاً رحلة نحو الحزن والقنوط.