يحيا أبناؤنا في هذا العصر- في ظلال عصر "سيطرة الصورة"- التي تصل إليهم عبر العديد من الشاشات سواء كانت الإلكترونية أو الذكية عبر الهواتف الذكية المتطورة التي لا تفارقهم ، فقاموا ببناء هرماً من القدوات من خلالها ، يتربع على قمتها الفنانون والرياضيون والإعلاميون، الذين تتسلط عليهم الأضواء، ويتصدرون أغلفة المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية، والحقيقة أنه في كل عصر يسعى معظم المراهقين والشباب إلى تقليد النماذج التي يتخذون منها قدوات، سواء على مستوى المظهر أو السلوك.
ومهما توجهنا بالنقد اليهم في ضرورة تجنب التقليد الأعمى، إلا أننا وبموضوعية شديدة يجب أن لا ننسى أننا كنا مثلهم نتطلع إلى من نحبهم أو من نعجب بهم، ونقلدهم بدون وعي في أحيان كثيرة، سواء كان في المظهر الخارجي أو السلوك والحركات وطريقة الكلام، وبسبب هذا التقليد تروج بضائع وتنتشر موضات وتقاليع، فالمراهقون والشباب هم الفئة المستهدفة لترويج البضائع والموضات التي تجعلهم أقرب شبهاً بنجومهم المفضلين لديهم.
ومن هذا المنطلق لوحظ أنه في الآونة الأخيرة انتاب المراهقين والشباب هاجسٌ بات ينمو، وهو هاجس التمتع- وبسرعة وبأية وسيلة مهما كان تأثيرها السلبي على صحتهم العامة- بعضلات منفوخة، وأكتاف عريضة، وجسد تبدو فيه الفتوة. إنه هوس جديد "هوس كمال الاجسام"، وهو الذي يوازي- من وجهة نظري- هوس الفتيات بعمليات التجميل وبرامج التخسيس، للحصول- وبنفس السرعة وبأية وسيلة- على جسد رشيق ومعايير جمال صنعتها وسائل الإعلام.
فالطفل الآن ينشأ في أحضان شاشة تعرض له أفلاماً كرتونية أبطالُها مفتولو العضلات، وألعاب "الفيديو جيم" تصور أشخاصاً يمتلكون أجسام العمالقة، وأفلام "الأكشن" والخيال العلمي الأقرب للمراهقين والشباب، المنتصر فيها يقترب جسمه من أجسام أبطال رياضة كمال الأجسام. هذا بالإضافة إلى أن بعض الفنانين والمطربين سعوا إلى الظهورفي كافة المناسبات بعضلات منتفخة، وعبر الإعلانات يتم الترويج لبضائع وأغذية، بحجة أنها سوف تصنع من مستخدمها بطلاً من أبطال كمال الأجسام. وهكذا تكونت لدى هذا الجيل الإلكتروني ثقافة تراكمية وصورة ذهنية راسخة، أوجدت علاقة شرطية بين العضلات المنفوخة وبين البطولة والنجومية ونيل إعجاب الآخرين خاصة الفتيات.
ولأننا أيضاً في عصر جعل الأطفال ينشأون في مناخ لا يعودهم الصبر، حيث بضغطة زر على ألعابهم الالكترونية يتحول بطل اللعبة إلى مخلوق خارق للطبيعة، وبنفس الضغطة يَقتل الطفلُ وهو جالس في مكانه المئات والآلاف، ولذلك فهو يريد بنفس السرعة التي أصبحت سمة من سمات حياته، تكوينَ العضلات المفتولة، وامتلاك القوة الجسمانية لتحقق للمراهق الحلم الذي يراوده، هو وأصدقاءه، ويعزف على أوتار تطلعاتهم، للوصول وبسرعة إلى مرحلة الرجولة التي تبعدهم عن مرحلة الطفولة، التي يرغبون في أن يودعوها، ليصعدوا على درج الرجولة، التي سوف يختزلها المراهقون في العضلات المنفوخة.
وفي نفس الوقت فإن هذه العضلات المنفوخة وسيلة للفت الأنظار خاصة أنظار الفتيات اللاتي بتن أيضاً مفتونات بنجوم سوف تنفجر عضلاتهم من شدة ظهورها منتفخة، ولذلك يلهث البعض من المراهقين وراء تناول عقاقير أو أعشاب أو هرمونات، من دون استشارات طبية، أو يقومون بممارسة تمرينات رياضية ربما لا تتلاءم مع مرحلة نموهم الجسماني، مما قد يؤثر سلباً على نموهم العضلي، أو يسبب لهم تشوهات, مما يحوِّل الحلم إلى كابوس، يخرج منه المراهق بآثار سلبية على صحته العامة، في ظل هذا اللهاث خلف الحصول على "عضلات دليفري".
وهكذا تنشط تجارة من تلك التي شاعت في عصرنا هذا وهي تجارة بلا قلب أو ضمير؛ إنها تجارة العقاقير التي تسرِّع بالحصول على عضلات تضاهي عضلات النجم الفلاني والمطرب العلاني، بالإضافة إلى وجود بعض صالات الرياضة التي تخلو من مؤهلين لتدريب المراهقين بما يتلائم مع مرحلتهم العمرية، وتروج هي أيضاً لأنواع من الأدوية والفتيامينات من أجل تحقيق نفس الهدف، وهنا يقع المراهق فريسة سهلة، خاصة إذا كانت أسرته غير واعية بحلمه، ولا تمتلك الثقافة الصحية لتوعيته، بالإضافة إلى خلوّ معظم مدارسنا من حصص الرياضة البدنية، وتحميل معلم الرياضة البدنية مسؤولياتٍ تجعله لا يتفرغ لتوعية طلابه بمخاطر العديد من السلوكيات السلبية التي يمارسها المراهق بدون وعي لمخاطرها وآثارها السلبية عليه، لإنه أصلا لا يجد وقتاً في معظم الأحيان ليمارس مهنته في تأهيل الطلاب جسمانياً وتفريغ طاقاتهم من خلال حصة التربية البدنية الغائبة عن جداول اليوم الدراسي.
إننا أمام جيل فقَد شعره بسبب "الجيل وملحقاته"، الذي أدخل أرباحا طائلة في جيوب التجار, وفتياتٍ فقدن صحتهن العامة بسبب برامج تخسيس أهدرت طاقتهن وأخلّت بنظامهن الهرموني، وأطفال أصيبوا بتشتُّت الانتباه والنشاط الزائد بسبب الأغذية التي باتت هي أساس برنامجهم الغذائي، فهل نريد أيضا جيلاً تأكل العقاقير والهرمونات في أمعائه من أجل الحصول على "عضلات دليفري"؟!
إن ممارسة الرياضة بكافة أنواعها تعد مقوماً أساسياً في العملية التربوية قديماً وحديثاً، وعلى المؤسسات المعنية بتنشئة أبنائنا أن تعني بنشر ثقافة ممارسة الرياضة البدنية والتثقيف الغذائي وأهمية استشارة الطبيب قبل تناول أية عقاقير والرقابة على الإعلانات عن أدوية وأعشاب بعيدة عن تراخيص وزارات الصحة. لابد من تعاون كافة المؤسسات لمواجهة هوس الحصول على "عضلات دليفري".
عبير الكلمات:
شكراً لكل كلمة رقيقة، وابتسامة صادقة، ومشاعر راقية، وزهورٍ عبيرُها لم يفارقني، وأشياء وأشياء.. أهُديت إليَّ من القلب فاستقرت في ذاكرة قلبي.