بيان صدر الجمعة الماضي عن شركة الطيران الحكومية في تونس، وخلص استنادا إلى آراء قدمها من وصفوا بالخبراء والمختصين، إلى أن حجاب المضيفات بات يشكل تهديدا حقيقيا على أمن وسلامة الركاب والرحلات الجوية.
ما جاء في البيان هو أن «لجنة داخلية التأمت وأكدت على أن المعاينة الدقيقة والمحددة من قبل خبراء في مجال طب الطيران، خاصة في حالة الاجلاء الطارئ، ووفق التمشيات الدولية في هذا المجال، أفضت إلى أن حمل الحجاب من قبل طاقم الطائرة من شأنه أن يتسبب في اضعاف السمع، لأن الاذنين مغطاتان في ظروف ضغط هوائي بسبب ارتفاع الطائرة، وأن الشخص الحامل لغطاء على الرأس يغطي الاذنين غير قادر على الاستماع إلى عدد من أصوات صفارات الإنذار، والأوامر الصادرة عن مكبر الصوت عند عملية إجلاء»، لكن نص الاعلان الذي نشر في وسائل الاعلام المحلية لم يذكر بالمقابل تاريخ اجتماع اللجنة واسماء اعضائها، والاهم من ذلك الوقت الذي استغرقته مداولاتها وأشغالها حتى تخرج في النهاية بمثل ذلك الاستنتاج الطبي المذهل، الذي لم تتوصل له حتى الان باقي شركات الطيران العربية والاسلامية.
ما لفت انتباه الكثيرين وأثار استغرابهم في الوقت نفسه، أن ظهور تلك الفتوى الطبية العجيبة، حصل في أعقاب تصريح إعلامي آخر لا يقل غرابة وإثارة، أدلى به وزير النقل قبل أيام، وذكر فيه بشكل واضح ودقيق أن «وظيفة مضيفة الطيران هي العمل على سلامة المسافرين، وأن الحجاب يقلل السمع بنسبة ثلاثين بالمئة، ما يعرض حياتهم للخطر»، داعيا في الوقت ذاته إلى الالتزام بما وصفه الزي الرسمي لشركة الطيران. وبالطبع لم يعرف بعد إن كان صدور البيان جاء لدعم تصريحات الوزير واكسائها طابعا تقنيا وعلميا صرفا، أم أن تصريح المسؤول الحكومي كان تفويضا وإسنادا رمزيا وسياسيا من جانب السلطات، بعد موقف المسؤولين عن الشركة، ما بات معروفا بمسألة طيران المضيفات المحجبات.
مَن سبق الاخر؟ ومَن كانت له الكلمة الفصل في رفض وجود مضيفة محجبة على متن رحلات شركة الطيران الحكومية؟ لا أحد يملك جوابا واضحا أو محددا. غير أن الثابت هو أن ما بدا قبل شهور فقط قرارا فرديا لقائد طائرة رفض صعود مضيفة محجبة على إحدى الرحلات الخارجية صار اليوم موقفا رسميا يروج له المسؤولون بقوة ويقدمون له الحجج والبراهين، باسم الحرص الشديد على سلامة المسافرين وأمنهم، أو ببساطة التمسك بتطبيق اللوائح والقوانين الداخلية. ولم يكن وزير النقل وحيدا في ذلك، فقد سبق لوزيرة المرأة أن قالت في جلسة استماع بإحدى لجان البرلمان، إنه لا أحد يعترض على حرية اللباس، وإنه لن يقع فرض الحجاب أو منعه. وفسرت قرار شركة الطيران التونسية بأنه يرجع فقط إلى حرصها على تطبيق نظامها الداخلي، وأنه يمكن للسيدة التي منعت من الطيران أن تغير مكان عملها من مضيفة بالطائرة إلى مضيفة على الارض، مثلما جاء في اقتراحها امام البرلمانيين. وفي النهاية فإن رسالة الحكومة باتت واضحة ولا تحتمل التأويل، وهي انه لا منع او حظر على الحجاب في المطلق، ولكنه من غير المسموح أو المقبول عمل المحجبات وظهورهن في بعض الاماكن والمصالح العامة. إنه الحظر الجديد باسم الديمقراطية الذي يخلف سنوات طويلة من حظر الاستبداد لكل مظاهر التدين والانتماء. أما الفرق بين الحظرين فهو فقط في الاسلوب وادوات التنفيذ. ففيما كانت الديكتاتورية تمنع النساء من لبس الحجاب وتصفه في منشور حكومي بالزي الطائفي الغريب عن ثقافة وهوية التونسيين، فإن عصر الديمقراطية الهشة غير في شكل الحظر وقدمه على أنه مجرد منع محدود تفرضه دواعي احترام القوانين واللوائح الداخلية للعمل أو الحرص على استتباب الامن وسلامة الجمهور.
وبمقتضى ذلك فإنه لن تسجن او تلاحق أي مضيفة محجبة مثلما كان يحصل في السابق، ولكنها ستكون في حال تمسكها بالحجاب مخيرة بين نزعه، أو البحث عن عمل آخر، حتى لو كان في موقع بديل داخل الشركة ذاتها، مثلما اقترحت وزيرة المرأة. أليست تلك قمة الديمقراطية العرجاء أن يترك الخيار للضحية لتحدد بمحض ارادتها نوع العقاب المسلط عليها بدلا من استئثار الجلاد وحده بذلك القرار؟ أما طرق وادوات التنفيذ فقد صارت اكثر نعومة ولطفا، بعد أن أدرك النظام أن اسلوب القمع الجماعي الأعمى الذي كان متبعا طوال العقود السابقة لم يعد مجديا. لقد استبدلت عصا البوليس الغليظة بهجمة اعلام خادع، حرص على تقديم المحجبات على انهن إما قاصرات لم يتجاوزن مرحلة الطفولة، فرضت عليهن عائلاتهن ذلك اللباس الدخيل، أو إرهابيات يتظاهرن بتدين فاسد ومغشوش، وحتى المسؤولات المحجبات اللواتي سمح لهن بالوصول إلى مواقع قيادية في الحكومة والبرلمان، لم يقدمن للناس الا على انهن اشبه بجوارى سلطان يوجههن ويسيطر على افكارهن ومواقفهن السياسية بالكامل. ولم يكن مصير اللواتي اثبتن تميزا وجدارة مثل، نائبة رئيس المجلس التأسيسي السابق وعضو البرلمان الحالي، بأفضل حالا، فقد ظلت شعارات مثل «المرأة التونسية ليست محرزية» تلاحقهن باستمرار، في إشارة واضحة إلى انهن لا يمثلن جزءا من التونسيات، رغم أن السيدة المقصودة صارت اليوم رئيسة للجنة المرأة في مجلس الشعب. وتلك واحدة من مفارقات بلد يعيش انفصاما حادا بين صعوده السياسي اللافت وانحداره الفكري والثقافي المريع. ولعل ذلك التناقض السريالي الغريب كان واحدا من بين أسباب عديدة جعلت سهاما حادة تصوب باكرا نحو الدكتور المرزوقي في اليوم الاول لاستلامه السلطة، وبمجرد فراغه من إلقاء خطاب القسم امام المجلس التأسيسي، الذي ذكر فيه أن الدولة ستعمل على «حماية المنقبات والمحجبات والسافرات»، ليقدم كلامه على أنه دعوة صريحة لتقسيم التونسيين واثارة النعرات بينهم. والإشكال الذي ظل عالقا هنا هو أن تونس لم تستطع حتى الان التخلص نهائيا من رواسب نزال ايديولوجي فتك بها في التسعينيات، وجعلها تحول وجهة خلاف سياسي على الحكم إلى مواجهة ضارية ومفتوحة مع الدين.
ولأجل ذلك لم يتحول الدفاع عن النساء المحجبات إلى قضية حقوقية، بل ظل مرتبطا فقط بتلك الرواسب القديمة وما تحيل اليه من تمثلات لحرب الدولة على الاسلاميين، رغم أن موقف حركة النهضة وهي اقوى واكبر الاحزاب الاسلامية في البلد ظل حذرا ورافضا للانسياق الاعمى وراء لعبة الفعل ورد الفعل، التي استدرج لها حتى يقدم مثلما كان يحصل في التسعينيات على أنه حزب يحتكر الدين ويرغب بجعله ملكية حصرية له، لاستخدامه كسلاح ردع ورعب في وجه المجتمع والدولة. لقد اختارت الحركة أن تقدم مرشحات محجبات وغير محجبات على قائمتها الانتخابية، وباستثناء اعلان بعض نائباتها عن تضامنهن مع المضيفة المحجبة التي منعت من عملها في شركة الطيران الحكومية فلم يصدر عنها تحرك قوي أو مؤثر مثل، التهديد بمساءلة وزير النقل في البرلمان أو حتى إثارة الموضوع داخل الحكومة التي تشترك فيها بشكل رمزي ومحدود. لكن كل ذلك لم ينفع على ما يبدو في تغيير ما بدا فكرا متكلسا للنخب التونسية التي لا تهتم أو تنزعج عند انتهاك الحقوق الشخصية للافراد، الا في حال ابتعادهم تماما عن الدين فتثير الدنيا صخبا وضجيجا دفاعا عن حقوق المثليين، وهم اقلية تكاد لا ترى ولا تأبه مطلقا لانتهاك حقوق المحجبات، وهن يمثلن شريحة واسعة من التونسيات.
ما يلخص ذلك هو تصريح استاذ جامعي يقدم على انه خبير في الجماعات الجهادية لإحدى الاذاعات الخاصة من أن «الاسلام المعتدل اخطر من الاسلام الجهادي». ما يعني بوضوح أن البلد يضيق بالمنقبات والمحجبات معتدلات او غير معتدلات، فلا مكان لهن على الارض. أما لماذا كل هذا الخوف منهن؟ فالسبب بسيط ولا يحتاج لمزيد من الادلة فتونس فقدت منذ ستين عاما قدرتها على السمع، ولم تسترجعها منذ ذلك الوقت، لأن الحجاب العقلي الكثيف الذي ضرب حول قادتها ونخبها دمر حواسها بالكامل، ولم تنفع في تشخيصه لا آراء الاطباء ولا الخبراء ولا المختصين من امثال الذين صاغوا الجمعة الماضي بيان شركة الطيران الحكومية.