أخطاء دعاة المساواة:
يخطئ هؤلاء الإخوة في الوطن خطأين شديدين:
الخطأ الأول: عندما يعتبرون توصية القرآن بإعطاء البنت نصف ما يأخذ أخوها الابن تمييزا وظلما وتكريسا للذكورية، والخطأ هنا يرجع إلى فصل هذا الحكم من المنظومة التشريعية القرآنية، وعدم دراسته في إطار سلسلة متشابكة متكاملة من الأحكام.
فالفصل يؤدي بالضرورة إلى "النتيجة" التي يعلنها دعاة المساواة، لكن التأمل في المسألة ضمن سياقها من الأحكام الشرعية المتعلقة بالأسرة المسلمة لا يسعه - إن كان محايدا ومنصفا - إلا أن يبارك الحكم ويدافع عنه.
فالأنثى التي تأخذ النصف ليست ملزمة بالنفقة على زوجها أو أولادها أو أبويها، إلا إذا شاءت الإحسان إليهم تعبدا وتقربا، أما أخوها فالنفقة على كل هؤلاء فريضة واجبة عليه يحاسب لأجلها ويعاقب دنيا وأخرى.
وكمثال توضيحي: مات رجل فترك ابنا وبنتا، وخلّف تركة قدرها ثلاثون مليون سنتيم، تأخذ الأنثى عشرة ملايين، ويأخذ الذكر عشرين مليونا.
أما الأخت فتكون مخيرة بين أن تشتري الحلي والملابس، أو تضع المبلغ في البنك للحاجة، أو تشتري عقارا يعود عليها بالربح، وإن شاءت تبرعت على زوجها وعيالها بقسط من المبلغ دون أن تلزم بذلك أو تحاسب.
وأما الأخ المتزوج، فهو رب أسرة مطالب بتوفير السكن والمعيشة ولوازم الحياة لزوجه وأولاده، وربما يكون مدينا لجهة ما فيستغل الإرث لسداد الدين.
وإذا كانت أخته غير متزوجة، فهو ملزم بإيوائها حتى تتأهل، وليس من حقه أن يطالبها بكراء بيت بحجة ما بين يديها من ميراث، إلا إذا فضلت هي أن تكون مستقلة عنه فلها ذلك.
وفي النهاية، فإن عشرة ملايين بالنسبة للبنت أفضل من عشرين بالنسبة للابن، وقد أدركت النساء هذه الحقيقة، لذلك كنّ ولا زلن يتنازلن عن أنصبتهن لإخوانهن الذكور في كثير من الحالات الاجتماعية.
الخطأ الثاني: يتحدث دعاة المساواة عن المرأة المغربية بإطلاق، والصواب أنهم يقصدون الحداثيات الجالسات في الصالونات الثقافية أو الترفيهية، فهذا النوع قد يستشعر الحيف والتمييز في أحكام الإرث والزواج وغيرهما.
والحق أن هذا الصنف لا يمثل واحدا أو اثنين في المئة من مجموع نساء المغرب، والواقع أن المرأة المغربية راضية قانعة بنصيبها، وتعتبره عدلا وحكمة ورحمة، بل إنها تعدّ دعاة المساواة خصوما لها لتطاولهم على شريعتها.
فعلى هؤلاء أن يحترموا إرادة جمهرة نساء المغرب، فلا يتكلموا باسمهن، ولا ينسبوا إليهن ما تحلم به الحداثيات.
أخطاء المحافظين التقليديين:
يقع المحافظون المدافعون عن الشريعة - حسب زعمهم إذ يصمتون على الضائع منها – في خطأين كبيرين يقابلان خطأي الحداثيين:
الخطأ الأول: وهو اتهامهم لدعاة المساواة بالعمالة واختلاق الفتنة، وهذا تعميم مكابر ودفن للرؤوس في رمال الإعراض عن الواقع المتطور المتبدل بسرعة.
إن الحداثيين جزء أصيل من تركيبة الوطن، ونسبتهم تزداد باطراد لأسباب متنوعة متشابكة، وهم في الجملة حريصون على السلم الأهلي كعموم التقليديين، والحق أنهم أصحاب فكر وثقافة يؤمنون بهما ويسعون لإقناع المجتمع المسلم بهما، فيجب مقارعتهم بالفكر الموضوعي لا التكفير، وبالحجة العلمية العقلية لا بالحجر والتحجير، وينبغي احترام حقهم في حرية الرأي والتفكير، وهذا روح دين البشير النذير.
الخطأ الثاني: ونعني به إصرار التقليديين على رفض تجديد النظر في بعض مسائل الإرث، واعتبار أي نظرة جديدة زندقة وكفرا وضلالا، مما يعطل حركة الإبداع الفكري ويعرقل التجديد المنشود، ويرسخ في ذهن الشباب المسلم المتحمس عدوانية سوداء تجاه الحداثيين وربما يحفزهم ذلك على التطرف والعنف.
والحق أن كتاب الله لا يضيره معاودة النظر في أحكامه كلما دعت الحاجة، بل إن ذلك تنفيذ لدعوته الخالدة للتدبر في آياته، قال الله جل جلاله في سورة "محمد": ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ، وقال سبحانه في سورة "ص": ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ).
إن صلاحية القرآن لكل زمان ومكان تستلزم القراءة المتجددة لآياته البينات انطلاقا من لغة كل عصر وأوضاعه وأحوال أهله، لا بمقاييس الماضي السحيق.
وإلى هذا المعنى يشير حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكَمْ، وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ رَدٍّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي مَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ».
فجملة: « وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ رَدٍّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ » تعني بوضوح أن تفاسير وفهوم المتقدمين لكتاب الله ليست نهائية، ولو كانوا صحابة، وإلا شبع منه العلماء وانقضت عجائبه.
فلما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بتلك الخصائص، فهمنا أن فهمه وتفسيره يتغير ويتطور حسب الظروف والأحوال، وبذلك يتحقق له الخلود والشمول، ويكون صالحا لكل زمان ومكان ومجموعة بشرية.
وهذا لا ينفي وجود الثوابت القطعية التي لا تقبل التطور والتغيير، كتحريم الزنا والسرقة ونحوهما، ووجوب الصلاة والزكاة وشبههما.
ولا يعني كلامنا أننا ندعو لفهم كتاب الله بعيدا عن قواعد العربية ومبادئ الأصول الفقهية وثوابت الشريعة ومقاصدها، إنما ندعو للفهم المتدبر المتجدد بناء على تلك القواعد والمبادئ والثوابت والمقاصد باستقلالية وحيادية انطلاقا من واقعنا وأحوالنا، واستئناسا باجتهاد المتقدمين وفهومهم لا تقديسا وتقليدا.
التمييز في الإرث غير ملزم:
نصّ القرآن الكريم على أن الذكر يأخذ ضعف الأنثى في حالات الأبناء وأبنائهم، والإخوة الأشقاء، والإخوة لأب، وفي حال انفراد الأب والأم بالميراث، كما نصّ على أن الزوجة تأخذ نصف ما يأخذه الزوج.
والآيات في هذه الأحوال واضحة صريحة، والسؤال: هل هذا التوزيع إلزامي لا يجوز التراضي بين الورثة على مخالفته بحيث تكون عصيانا وتمردا على إرادة الله؟
بعبارة أخرى: إذا قرّر الذكور عند قسمة التركة سلوك المساواة مع الإناث عن رضى، فهل يكون ذلك عصيانا لله يوجب مقته وغضبه؟
وإذا تطوّر الشعب المغربي مثلا فصار شبيها في واقعه الاقتصادي والاجتماعي بالشعوب الأوربية، وكان عدد النساء أكثر من الرجال، وارتفعت أصواتهن بضرورة المساواة في الإرث، فهل يجوز إرضاؤهن حفظا لاستقرار المجتمع؟ وهل يكون طلبهن ذاك مناقضا لإيمانهنّ بالله ربا والإسلام دينا؟
إن الجواب على هذه الأسئلة والافتراضات الممكنة القريبة يمرّ عبر هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: نرى أن التوزيع المنصوص عليه في آيات المواريث ملزم شرعا عند اختلاف الورثة وعدم توافقهم، أما إذا تراضوا على قسمة مغايرة لما نص عليه القرآن العظيم، كأن يتوافقوا على المساواة أو على تفضيل الإناث، فلهم ذلك، ولا حرج أو إثم عليهم، بدليل أن الوارث يملك الحق في أن يتنازل عن ميراثه إذا شاء، كأن يكون مستغنيا بثروته وتكون تركة أبيه هزيلة، ويكون إخوته محتاجين إليها أكثر.
ومن هنا فإن المرأة المسلمة تتنازل عن نصيبها لأخيها الرجل إذا كانت متزوجة مستغنية، وكان ما خلّفه أبواها لا يكفي إخوتها الضعفاء.
فالتوزيع القرآني هو القانون عند الاختلاف والتنازع.
الوقفة الثانية: النصف للأنثى هو الحد الأدنى الذي لا يجوز النقصان منه بدون رضاها، والضّعف للذّكر هو الحدّ الأعلى الذي يستحقه، ويجوز النقصان منه برضاه ليتساوى مع أخته.
وعليه، فإذا تطوّر المجتمع المسلم اجتماعيا واقتصاديا، وكان النساء أكثر من الرجال، وصارت المرأة قائمة بشئون أسرتها من حيث النفقة والمعيشة، جازت المساواة بين الجنسين في الميراث، لأن العلة التي أنيط بها تضعيف أنصبة الذكور لم تعد قائمة.
ولا يعدّ ذلك تمردا على الشريعة، بل إعمالا لروحها ومقاصدها العليا.
ومن هنا، فالحداثيون يخطئون حين ينادون بالمساواة متجاهلين الواقع المجتمعي المنادي بأن المرأة المغربية لم تتفوق بعد على الرجل عدديا بصورة ظاهرة، ولم تأخذ مكانه في القيام بمسئوليات الأسرة إلا نادرا، والمحافظون يغالون حين تستفزهم دعوات التجديد والتطوير فيزمجرون ويتطرفون في الرد.
الوقفة الثالثة: أنزل الله آيات المواريث بعد السنة الخامسة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المجتمع المسلم قبل ذلك يتألف من الصحابة المهاجرين والأنصار، وكانوا يقتسمون التركات على طريقة الجاهلية المجحفة، وتأخر تنزيل آيات الإرث القديمة الأزلية لأن الصحابة لم يكونوا مستعدين نفسيا وإيمانيا لتنفيذها بسبب العرف والعادة.
فهل يمكن أن يتقهقر المجتمع المسلم، فيصبح غير مستعد لتطبيق التوزيع القرآني للميراث بسبب تبدل النظم الاجتماعية والاقتصادية؟
الجواب: نعم، وحينئذ يسع المسلمين ما وسع الصحابة رضي الله عنهم من باب أولى وأحرى.
والواقع يشهد أن المسلمين اليوم غير متأهلين لتنفيذ حدود السرقة والقتل العمد مثلا، فالتطور الاجتماعي نحو التضجر من التمييز بين الذكر والأنثى في الميراث ممكن جدا.
وهل يتعارض ما نقوله مع صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان؟
كلا، فالشريعة لها حالتان تضمنان لها الخلود:
الأولى: إذا كان المجتمع المسلم مستعدا في عمومه لتنفيذ الأحكام الشرعية المتأخرة في النزول، وجب تنزيلها عبر المنظومة القانونية المسنودة بالقوة التنفيذية.
الثانية: إذا كان المجتمع المسلم غير مستعد لتطبيق الأحكام المتأخرة نزولا في القرآن بسبب الموانع الاقتصادية والعقبات الاجتماعية، جاز له العمل بما يتوافق عليه جمهور الأمة قياسا على عمل مجتمع الصحابة قبل تنزيل تلك الأحكام.
ويبقى المجتمع رغم ذلك مسلما مؤمنا بالنظر للمعتقد الصحيح.
الوقفة الرابعة:
لقد قام المسلمون منذ زمن الصحابة بتعطيل التوزيع القرآني للميراث بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وبدافع احترام الأعراف والعادات الراسخة، ولم يروا ذلك تمردا أو عصيانا يستجلب غضب الله وسخطه، وهذه أمثلة على ذلك:
المثال الأول: من شواذّ الإرث مسألة المشرّكة، وهي أن تموت امرأة وتترك زوجها، وصاحبة سدس من أم أو جدة، وإخوة لأم اثنان فأكثر، وإخوة أشقاء ذكورا، أو ذكورا وإناثا لا إناثا فقط.
وتسمى اليمّية والحجرية أيضا، فكيف تصرف فيها الفقهاء؟
القول الأول: يشترك الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم فيقتسمون الثلث بالتساوي للذكر مثل حظ الأنثى، وهذا قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم عمر وعثمان، وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله.
القول الثاني: أنهم لا يشتركون، فينفرد الإخوة لأم بالثلث، ولا يأخذ الأشقاء شيئا، وهذا قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم علي وابن مسعود، وبه قال أبو حنيفة وأحمد.
ولنا استنتاجان هنا:
الأول: راعى أصحاب القول الأول العرف والعادة، وهي أن الأشقاء لا يمكن أن يستسيغوا تفرد الإخوة لأم بالميراث دونهم في هذه الحالة، نظرا لقوة قرابتهم، فأشركوهم معهم رغم أن منطوق القرآن لا ينص على هذا التشريك، بل يفرد الإخوة لأم بالثلث في قوله تعالى: (فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ).
الثاني: أعمل أصحاب القول الثاني الآية الخاصة بالإخوة لأم فحرموا الأشقاء بالكلية، لكنهم ومعهم أصحاب القول الأول عطلوا قوله سبحانه في ميراث الإخوة الأشقاء: ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ، فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ، وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ، يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ).
قرّرت هذه الآية أن الأخت الشقيقة تأخذ النصف إذا انفردت، والثلثين إذا تعددت، ولم يكن للميت فرع وارث وهو المعبر عنه بالولد، ونصت على أن الشقيق يرث أخته إذا لم تترك فرعا وارثا، وعلى أن الشقيقة تأخذ نصف الشقيق عند الاجتماع، بغض النظر عن وجود الأطراف الباقين لمسألة المشرّكة.
فهل اعتبر أصحاب القولين هذه الآية؟
كلا وألف كلا، فكلهم أفتوا بما يعطلها تحت ضغط الواقع الاجتماعي، ويبقى القول الأول أعقل وأجدر بالقبول لأنه قد يكون الحل الأمثل للجمع بين الآيتين، وهو جمع يساوي بين الأخت الشقيقة وأخيها في الميراث، أي أنه يزيدها وينقص الأخ.
وللعلم، فآية الأشقاء متأخرة في النزول عن آية الإخوة لأم، فلا مجال لادعاء نسخها.
المثال الثاني: إذا تركت الزوجة زوجها وأبويها، فإن الزوج يأخذ النصف، وتأخذ الأم ثلث النصف الباقي في حين يستحق الأب ثلثي النصف، فيكون نصيبه مضاعفا لنصيب الأم وأقل من حظ الزوج، وهذه الطريقة تسمى "العمرية" لقضاء سيدنا عمر فيها بذلك، وتسمى أيضا بالغرائية لشهرتها كالكوكب الأغر.
وفي قضاء الفاروق هذا تعطيل لظاهر قوله تعالى: ( فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ).
فظاهر القرآن يقضي بأن يأخذ الزوج نصف تركة زوجه، وتستولي الأم على الثلث، ويرث الأب ما بقي بالتعصيب وهو السدس.
والنتيجة أن الأم ترث ضعف الأب، وهو ما لم يكن مستساغا زمن الفاروق نظرا لاستحكام العادات العربية، فاضطر إلى احترامها حتى لا يكون خلافها سبيلا للردة والكفر، فعطل منطوق القرآن وشغّل روحه.
أما سيدنا ابن عباس الذي كان فقيها فقط، لا مسئولا عن شئون المجتمع، فإنه عارض الفاروق، ودعا لإعطاء الأم الثلث من مجموع التركة لا من النصف المتبقي.
ومذهب الفاروق رضي الله عنه هو المعمول به عند جماهير الفقهاء، والمعتمد في مدونة الأسرة المغربية.
ونلاحظ أن الفقهاء لم يفكروا في المساس بنصيب الزوج لأنه ذكر، وفي ذلك وجه آخر لمراعاة العرف والعادة ومراكز القوة في المجتمع، ولو أن المدونة اليوم اعتمدت النقصان من نصيبه إلى الثلث ليتساوى مع الأم والأب، لكان ذلك أقرب للقبول من إنقاص حظ الأم المستضعفة لصالح الأب، فقد تغيرت العقول كثيرا عما كان عليه الحال زمن الخليفة الراشد الثاني عليه الرضوان.
المثال الثالث: نصّ القرآن على أن البنت الواحدة تأخذ نصف التركة إذا انفردت، ولم يبين مصير النصف الباقي، فاستدرك الفقهاء بتنصيصهم على أن البنت المنفردة تأخذ التركة كلها نصفا بالفرض القرآني ونصفا بالرّدّ الاجتهادي العقلي.
ونص القرآن على أن الأم تأخذ ثلث التركة إذا لم يكن لولدها الميت فرع وارث، أو متعدد من الإخوة، وزادها الفقهاء الثلثين الباقيين إذا لم يخلف غيرها من الورثة.
ففي هذه الحالات وشبهها، استجاز الفقهاء الزيادة على الحدّ الأدنى الذي فرضه الله لتلك النسوة، ولا يسعف المحافظين ادعاء عدم المستحق للباقي، فالجواب أن الميت قد يترك مع بنته الوحيدة خالة فقيرة أو عمة مسكينة أو جدا لأم معوزا... وكل هؤلاء لا يستحقون الميراث عند جماهير الفقهاء، لكنهم يستحقون أخذ ما بقي وفضل عن البنت والبنتين، أو الزوجة أو الشقيقة، على سبيل الصدقة تنفيذا لقوله تعالى: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ).
بعد هذه الآية تأتي آيات التوزيع مباشرة، فكأن الله تعالى يضعها في البداية لتفعيلها وتنفيذها سواء استغرق الورثة جميع التركة أم بقي منها شيء بعد أخذ أصحاب الفروض أنصبتهم، لكن الفقهاء عطلوا الآية ويعطلونها وربما يتمسكون بتعطيلها إلى أن يجرفهم التاريخ وتتمرّد الأمة على عصيانهم للآية المحكمة الصريحة.
المثال الرابع: نصّ كتاب الله على أن الأب يحجب الإخوة بأنواعهم الثلاثة، واستدرك الفقهاء الجدّ لأب فجعلوه حاجبا للإخوة من أم، رغم أن القرآن يقرر حجبهم بالأب والابن وابن الابن دون غيرهم، واختلفوا في حجب الإخوة الأشقاء والإخوة لأب بالجد اختلافا شديدا، وتصرّف نفاة حجبهم به في أنصبتهم بعيدا عما قرره لهم منطوق كتاب الله، وكل تصرفاتهم تدور حول النقصان من الإخوة لفائدة الجد.
ونحن لا ننكر عليهم ذلك، فلا شك أنهم كانوا مدفوعين بمراعاة رتبة الجد داخل الأسرة التقليدية البدوية.
وإذا جاز لهم التصرف في ميراث الإخوة بالنقصان مراعاة للواقع، فلماذا يستعظم المحافظون التصرف في ميراث الذكور لصالح الإناث إذا تغيرت الأوضاع الاجتماعية والأسرية؟
المثال الخامس:
كان أبناء البنت لا يرثون، ليس لأن القرآن حرمهم من الإرث، بل مراعاة للأعراف والتقاليد العربية التي كانت تؤخرهم جدا جدا، فكتاب الله يدرجهم في عبارة: ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) ، والفقهاء يفسرون كلمة الأولاد بالابن والبنت وابن الابن مهما نزل وبنت الابن مهما سفل دون دليل من كتاب الله أو سنة رسول الله الصحيحة، ومرجعهم في ذلك هو العرف العربي لا غير.
ولو تعقل الفقهاء لرأوا أبناء البنت أقرب إلى الميت وأحب وأولى بالميراث من ابن ابن الابن أو بنت ابن الابن، فكيف بمن نزل عن هذه الدرجة كثيرا.
وقد استشعر بعض الفقهاء الحرج فألزموا الجد والجدة بكتابة وصية لأبناء بنتهما إذا ماتت قبلهما، وسموها الوصية الواجبة، وهو اجتهاد حسن لم يفرضه الله ولم يأمر به نبيه عليه السلام، لكنه يراعي أحوال الناس.
أما المقرر اليوم في مدونة الأسرة المغربية، والمؤيد بفتاوى المذهب، فهو أن أبناء البنت الميتة يرثون نصيبها من أبويها على سبيل التنزيل، وفي ذلك خروج عن منطوق القرآن وظاهره إلى روحه ومقاصده.
أي أن المجتمع المسلم تطور حتى تبدلت تراتبية القرابة فيه، فأصبح أبناء البنت يستحقون الميراث دون أن يشكل ذلك عصيانا لله ورسوله.
والخلاصة أن الفقه الإسلامي لم يجمد على ظاهر الآيات المتعلقة بالمواريث، ولم ير غضاضة في مخالفة منطوقها احتراما للعادات والأعراف، ورعاية لعدم استعداد النفوس لتطبيق تلك الظواهر المنطوقة.
وهذا يفسح المجال أمام الفقهاء للتجديد والتطوير كلما تبدلت الأوضاع الاجتماعية، وتغيرت الظروف الاقتصادية، وتطورت التراتبية الأسرية، ومن حصر حق الاجتهاد في الصحابة فهو واهم ومعرض عن اجتهاد الفقهاء بعدهم.
الوقفة الخاتمة:
سيعترض المتسرعون علينا بقوله تعالى بعدما أنهى آيات توزيع المواريث: ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا، وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
فيزعمون أن أنصبة الميراث حدود إلهية لا يجوز اختراقها، وبالتالي فلا مجال للاجتهاد في هذا الباب.
والجواب الاستباقي:
أولا: إنها حدود الله التي لا يجوز الخروج عنها عند الاختلاف والتنازع بين الورثة، أما إذا تراضوا على قسمة أخرى، فقد تقدم أن ذلك مباح لا عصيان.
ثانيا: إنها حدود الله التي لا يسمح بتجاوزها إذا كانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية تقتضيها وتتطلبها، وكانت النفوس مستعدة لتنفيذها، أما إذا اختفى الشرطان لترابطهما، فالشريعة تبيح الاحتكام إلى ما فيه مصلحة المجتمع.
ثالثا: إذا كان الاجتهاد في مسائل الإرث بالزيادة أو النقصان في أنصبة بعض الورثة اختراقا لحدود الله وعصيانا، فسيدنا عمر والصحابة الذين وافقوه في مسألتي المشركة والعمرية، أول من تمرد على حدود الله وسنّ العصيان، وحاشاهم من ذلك.
وبالتبع، فالفقهاء الذين أفتوا باستيلاء البنت الواحدة أو الأم على مجموع التركة، وبالوصية الواجبة أو التنزيل لفائدة أبناء البنت متجاوزون لحدود الله متمردون، وليس كذلك.
فافهموا روح شريعتكم، وكفاكم صمتا عن الثوابت التي لا تقبل التغيير، والسلام.