دائماً هناك سؤال، ونادراً ما يتبعه جواب، كأننا نعيش في منظومة تسيطر على أسلوب تفكيرنا وتحدد لنا ما يجب أن نعرف وما لا يجب أن نعرف.. تظل الحقيقة غارقة في عالم لا يُسمح لنا أن نشد رحال أذهاننا إليه.. علينا فقط أن نستقبل المعلومات الموجهة لنا بغض النظر عن جذورها، مصداقيتها والشوائب التي تحيط بها. ولكن ما هو الثمن الذي سندفعه في حال اعترضنا على هذا القدر وقررنا أن نجد الحقيقة المطلقة العارية من كل التحيزات والتوجهات! هل سيتقبلنا المجتمع؟ هل سيظل أصدقاؤنا وأحبابنا برفقتنا أم أنهم سيشعرون بالريبة منا وعدم الأمان؟ هذا ما تطرق له أفلاطون تلميذ سقراط والذي له الفضل في معرفتنا هذا الفيلسوف وأفكاره وآرائه ذلك لأن سقراط لم يكتب أو يدوّن أياً من أفكاره غير أن أفلاطون تكفل بهذه المهمة وأخرج عديداً من الكتب التي تتطرق لسقراط وحياته وأفكاره وفلسفته. ولكنني أريد التركيز على فلسفة أفلاطون نفسه، خصوصاً ما جاء في كتابه السابع من سلسلة كتبه " الجمهورية"، تطرق في هذا الكتاب لِما يسمى بأسطورة الكهف، حيث يعيش الناس في كهف مظلم مقيدي الأطراف والرأس غير مسموح لهم بالالتفات، يحدقون بجدار تعرض عليه ظلال بسبب النار التي تلتهب خلف ظهورهم وتمر الأشكال أمام هذه النار فيُعرض ظلها على الجدار الذي يتأمله الأسى، ولكن تم إطلاق سراح أحد الأسرى والتفت أخيراً ليرى النار ويُصاب بالذهول ولكن سرعان ما اندثر ذهوله من النار عندما خرج من الكهف وأبصر العالم الحقيقي، العالم كما يفترض أن يكون، تضيئه الشمس ويمتد للأبد، وتأمل هذا الأسير تلك الأشكال التي تبدو ثابتة وملونة وجميلة ومحايدة، وتذكر عندما مرت تلك الأشكال أمام النار وعُرِض ظلها على الجدار، كيف كانت تتبدل، فمرة تظهر طويلة ومرة قصيرة ومرة داكنة ومرة فاتحة، أدرك ذلك الأسير الحر، أن ما يعرض على جدار الكهف ليس حقائق، بل زيفاً كاملاً! فالحقائق ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير ولا تنحاز ولا تشوبها أية شائبة. لذلك أخذ على عاتقه العودة للكهف وتحرير المساجين، ولكن الظلام بالداخل جعله يترنح ويفقد توازنه مما جعل الناس يعتقدون أنه مجنون، وعندما أخبرهم عن العالم بالخارج وعن الحقائق الجميلة والتي تنيرها الشمس، تضايقوا منه واعتبروه موسوساً وأمروه أن يصمت وإلا فسيقتلوه. في كهف أفلاطون، حيث تتراقص ظلال الزيف، عاش فئة من الناس يرفضون المعرفة والحقيقة، راضين بعبودية أذهانهم لفكرٍ ما وتوجّه ما، هل تعرف أحداً منهم؟.. انظر جيداً لعالمنا اليوم، حيث يرهن أناس عقولهم للظلام ويقذفون أنفسهم للتهلكة من أجل فكرة غريبة مميتة، يطلبون الشهادة بقتل الآخرين بعمل جبان إرهابي، أليسوا ممن تراقصوا مطولاً أمام الظلام والظلال، فلم يرغبوا بمعرفة حقيقة العالم والوجود والمحبة، فخسروا أنفسهم أولاً حيث عاشوا في توتر وغضب وكراهية، ثم خسروا حياتهم بشكل مؤذ وقاس ومؤلم.