قضية المرأة في مجتمعنا من القضايا الحسّاسة والشائكة في آنٍ معاً، باعتبارها قضية مجتمعية أزلية قائمة على تعنّت متجذّر في الوعي والثقافة السائدتين منذ قرون برفض الاعتراف بمساواتها للرجل، والنظر إليها على أنها كائن ناقص وتابع له باعتباره القيّم والوصي عليها في مختلف شؤونها أيّاً كانت صلتها به، وبالتالي رفض النظر إليها على أنها إنسان كامل الأهلية والحقوق مهما علا شأنها وعلمها حتى في الأوساط التي تدّعي الإيمان بتلك الحقوق.
من هنا، أصبحت تلك القضية من أكثر القضايا الإنسانية والمجتمعية التي احتلت مكانة بارزة في اهتمام المعنيين بحقوق الإنسان، والذين دبّجوا ودوّنوا العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تركز على إنسانية المرأة ومساواتها للرجل في مختلف مجالات الحياة واتجاهاتها. وبالتالي احتلت مكانة ملّحة وأساسية في صياغة الدساتير والبرامج والخطط السياسية والتنموية والمجتمعية سواء لدى الدول والحكومات، أو لدى الأحزاب السياسية التي ما تنفكّ تعلن إيمانها وقناعتها الأكيدة والحاسمة بضرورة حضور المرأة ومشاركتها في صياغة الحياة والمجتمع جنباً إلى جنب مع الرجل.
غير أن الواقع الذي تعيشه المرأة في غالبية المجتمعات الإنسانية، لاسيما مجتمعاتنا الشرقية يشي بخلاف ذلك، لأن الأعراف وتلك الذهنية التقليدية التي تسودها ثقافة ذكورية مسيطرة بالمطلق على مختلف مجالات الحياة، وخاصة فيما يتعلق بالمرأة، لا يمكنها حتى اللحظة أن ترى المرأة بمنظور مختلف عمّا تراها منه، ولا يمكن أن تسمح لها بأن تتجاوز عتبات هذا المنظور والموشور المشوّه لإنسانيتها وحقوقها، بما فيها الأحزاب السياسية التي تناصر قضايا المرأة وحقوقها، وتؤمن بضرورة وأهمية مشاركتها للرجل في صياغة الحياة برمتها..
ما دعاني للعودة إلى هذا الموضوع، الحضور اللافت للنساء في حفل افتتاح أعمال المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي الموحد، فقد كان حضوراً رائعاً من حيث أعمار أولئك النسوة الممتد من عمر الشباب مروراً بالكهول وحتى العجائز (وإن كانت التسميات مجازية بالتأكيد).
لقد أفرحني وبغبطة لا توصف إصرار العديد من النساء الكبيرات في السن والتجربة على مواصلة الطريق الذي اخترنه منذ الصبا ومازلن، واستمرار تواجدهن في تلك المحافل رغم صعوبة التنقّل والوقوف أو الجلوس وقتاً طويلاً، والأكثر إصراراً كان ما رأيته في عيونهن من فرح لاستمرار وجود الحزب ومسيرته الطويلة في المجتمع رغم كل الصعوبات والعقبات والعراقيل التي تحاول أن تعيق عمله وأهدافه أمنياً وسياسياً وحتى ثقافياً.. وكذلك الإصرار وبعناد على متابعة نشاطهن وحضورهن الفاعل سواء في الحزب أو الأوساط المجتمعية التي يرونها بحاجة ماسّة إلى هذا الحضور وتلك الفاعلية إيماناً منهن بأن تطور المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية، إضافة إلى حلّ جميع الإشكاليات والتناقضات التي تعيق مساهمة المرأة ومساواتها للرجل، لا يمكن تحقيقها جميعاً بعيداً عن وجود الحزب الذي ما زال برأيهن حزب الشعب والفقراء والعمال والعدالة الاجتماعية ووو..
يُضاف إلى أولئك المناضلات، وجود شابّات يحملن في وعيهن فكر الحزب ويعتنقنه في زمن انتشار وسائل التواصل المختلفة والتي أقصت العديد من الشباب عن الانخراط في اتجاهات فكرية أو سياسية، بل وجرفتهم في تيارات يشوبها بعض الضياع والاستهتار والاستلاب لمفاهيم مناقضة للفكر السياسي العلماني.
إن هذا الحضور الرائع والراقي لأولئك الشّابّات يمنحنا شعوراً متفائلاً بأن هناك أجيالاً ولا يمكن للحياة أن تتوقف، ولا يمكن للفكر اليساري أن يتلاشى مادامت هي حاضرة ترفع رايته وتتبنّى رؤاه وأفكاره، مثلما هو حضور تلك النساء متقدمات العمر والتجربة، واللواتي يعطين الشباب دفعاً معنوياً كبيراً للاستمرار في الطريق الذي اختاروه..
وبمقدار الفرح الذي غمرني في ذلك الحفل، بمقدار الحزن والخذلان الذي شعرت به ليس فقط في الافتتاح، وإنما في تعامل قيادة الحزب عموماً مع حضور المرأة الضروري وقضاياها العالقة والشائكة، هذا الحضور الذي يكون شكلياً ومجرد ضرورة لتوافق الحزب مع مبادئه الداعية إلى تبني قضايا المرأة، دون أن يكون هناك تعامل أو تناول جدي وحقيقي لتلك القضايا ومعالجتها، والوقوف في وجه الذهنية المجتمعية الذكورية التي تريد الإبقاء على المرأة داخل أسوار الحرملك، لاسيما بعد الردّة الدينية التي سادت المجتمع، خاصة في سنين الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد.
لاسيما أن التقرير الاقتصادي والاجتماعي كان قد تناول قضية المرأة ومعاناتها خاصة في ظل هذه الأزمة تناولاً يشي بأنه من باب رفع العتب لا أكثر، فما عايشته المرأة السورية على مرّ تاريخها، وعلى مرّ سنوات الأزمة التي أطاحت بكل مقومات الحياة والاستقرار والأمان مما جعلها عرضة وفريسة سهلة للاغتصاب والاعتقال والموت والتشرد، ولأن تكون هي المعيل والسند الأساسي لغالبية الأُسر السورية في ظل غياب متعدد الأسباب للرجل، وكذلك مجمل قضاياها العالقة مع المجتمع والحكومة ورجال الدين، لا يمكن الإحاطة به من خلال فقرة صغيرة جاءت في نهاية التقرير لتصف وصفاً عاماً وباختصار واقع المرأة ووضعها، ومثل هذا ما جاء في كلمة الأمين العام للحزب في حفل الافتتاح، وكذلك عند إرسال التحيات إلى جهات معينة، جاءت التحية إلى المرأة السورية في آخر المطاف في العدد الأخير من جريدة الحزب وكأنها تحصيل حاصل لا أكثر، في الوقت الذي كنّا ننتظر فيه أن يركز تركيزاً أكبر على مجمل هموم المرأة ومطالبها، خاصة في هذه المرحلة من تاريخ البلاد والمرأة والحزب، وأكثر ما كنّا ننتظر أن تُذكّر الحكومة بما آلت إليه النتائج التي خلصت إليها اللجنة المكلّفة من وزارة العدل بدراسة وتعديل المواد التمييزية ضد المرأة في القوانين السورية، وخاصة قانوني الأحوال الشخصية والجنسية على اعتبار أن جريدة الحزب كانت قد واكبت أعمال اللجنة بمجموعة مقالات تناولت تلك القوانين.
إن حضور المرأة سواء في المجتمع أو في الحزب، لاسيما في المرحلة العصيبة الراهنة، يتطلب اهتماماً أكبر، وتعاطياً جدياً وحقيقياً أكثر ليس من باب رد الجميل لأولئك النساء والشّابّات رغم ضرورته وإيجابيته بحكم وضع المرأة في مجتمع محافظ وتقليدي، وإنما من باب القناعة التي يُفترض أن تكون راسخة ومتجذّرة أكثر في فكر قيادة الحزب ووعيه، لأن استمرار الوضع القائم هو ما أبقاها حتى يومنا هذا -رغم وصولها إلى مستويات متقدمة في العلم والعمل، وتسلّمها مناصب قيادية- ولو بحدودها الدنيا- رهينة العقلية الذكورية البطريركية، إن كان على المستوى الخاص في الأسرة، أو على المستوى العام في المجتمع والدولة، وعلى مستوى الأحزاب والنّخب السياسية الأخرى، بفضل إصرار الجميع بمن فيهم منظمات المجتمع المدني، لاسيما تلك الناشطة في الحقل النسوي على ضرورة تمثيل النساء اعتماداً على مبدأ (الكوتا) وهذا ما يتطلب من الحزب الشيوعي قبل أي طرف كان تعزيز حضور المرأة السياسي من خلال مشاركتها الحقيقية والفعّالة في الحياة السياسية للبلاد بعيداً عن مظاهر المساواة الشكلية إن كان في الانتخابات أو سواها، رغم قناعتنا أن كل تغيير يطال القيم والمفاهيم، لا بدّ سيحتاج إلى الكثير من الزمن، والكثير من التضحيات حتى تصل النساء إلى ما يليق بهنّ يوماً.