أصوات ليست قليلة في عالم اليوم لا يخفون كراهيتهم لكل ما يمت للماضي بصلة. بل هناك مؤلفات ترى أنه ثمة تنافرا حتمياً بين التجديد والتراث، وأنه لا سبيل للتقدم إلا بالتخلص من أي محاولة للنظر في الماضي.
ربما يوجد لًبس لدى البعض بين مفهومي الماضي والتراث، وإن كنت أرى أن هناك خلطاً متعمّدا أيضًا بينهما بهدف تمرير وجهة نظرة معادية لأي قيم ومبادى يتم استلهامها من التراث !
للبيئة المحلية أثر واضح في تفكير وحياة ساكنيها، ومنذ القدم تعامل الإنسان مع الصعاب الحياتية بشكل ناجح. في مجتمعنا على وجه الخصوص عانى الآباء والأجداد من ثالوث البيئة القاسية، ولكنهم تعاملوا معها وتغلبوا عليها، وتركوا لنا الكثير من الإرث المادي متجلياً كالأدوات والمعدات التي استخدموها، والشفهي كالأشعار والقصص التى تُظهر الشجاعة والصبر وغيرها الكثير.
هذا الثالوث المكاني القاسي، تمثل في الصحراء والبحر والجبال؛ ففي الصحراء القسوة والترحال في بحث مضني عن الماء والكلأ، تطلب التغلب على البيئة الصحراوية الكثير من المخترعات والخبرات كمعرفة كيفية تحرك الرمال والرياح ونحوها، وكيفية صناعة الملابس من جلود الحيوانات، بل كيف يتم تجنب الحيوانات المفترسة، وبناء المنازل القوية سهلة الفك والتركيب وخفيفة الحمل.
أما في الجبال وسهولها فتمت الزراعة، وهي مهنة شاقة تطلب العمل فيها تطوير مستمر للأدوات المستخدمة وابتكار حلول تتعلق بتقنين استخدام المياه لشحها واختراع وسائل جديدة في الري، بل حتى في تسميد الأرض ومتى تتم، وكيف يتم تلقيح بعض الأشجار، وحمايتها من الحشرات وغيرها من الوسائل والطرق التي كفلت للإنسان حياة الكفاف وعدم الموت جوعاً.
أما في البحر، حيث يتم صيد الأسماك واللؤلؤ، وهي مهنة أيضا متعبة ولا تقل مشقة عن الزراعة، استخدم الصيادون والغواصون الكثير من الأدوات التى خضعت بدورها للكثير من التطوير والتحديث لتحقق أكبر غلة من صيد الأسماك، مثل صناعة شباك خفيفة وطويلة وقوية، وغيرها من الأفكار.
يريد أصحاب دعوة التخلي عن التراث أن نلقي بكل هذا الإرث الحضاري والإنساني خلف ظهورنا، بدعوى التطوير والبناء!
في الحقيقة هم يستحقون الشفقة، لأنهم بنوا نظرتهم على مشاهدتهم لبعض المجتمعات التي تعثرت في مكافحة الفقر، وتعثرت تنموياً واقتصادياً، واعتقدوا أن الأمر مرتبط بتعلق تلك المجتمعات بتراثهم، لذا صبوا جام الغضب على التراث وظنوا أن القضاء عليه شرط للتقدم نحو المستقبل.
إنها نظرة سطحية، فهؤلاء ينسون أثر التخطيط ويتجاهلون أهمية العمل والتعليم، ويتجاوزون قيمة القانون والنظام، ويتجاهلون – ربما- أن أي خلل في هذه الجوانب المهمة لا دخل للتراث فيه.
أدعو هؤلاء لإلقاء نظرة فاحصة ومتمعنة للإمارات، بلادنا التي تمكنت في سنوات قليلة من المواءمة بين اهتمام كبير وبالغ وواضح بالتراث، وبين البناء الحضاري، ليدركوا أن التقدم والازدهار والنجاح مرتبط بالإرادة والتخطيط، وأن التراث كان دافعاً قوياً للتقدم نحو المستقبل.
نحن مع التراث بكل أنفاسنا، ونحن مع التعليم والتحديث والتطوير بكل جوارحنا، والمطلوب من أي مجتمع معرفة كيف ينطلق نحو المستقبل وكيف يبني حضارته من دون هزيمة أو كسر لتراثه