الكاتب لا يجب أن يكتب فقط أفكار وإنطباعات وربما مدح أو إنتقاد، ولكن يمكنه أن يدخل إلى الحديقة الخلفية للذات البشرية وهذه الحديقة الخلفية الصغيرة والقابعة بصمت في أعماق كل منا هي الأشد جمالاً في انسانيتنا، لأننا هناك نزرع الزهور بديعة الألوان، نخبئها في الزوايا وفي الأصص الصغيرة، زهور نادرة وغالية الثمن، أو زهور عادية زهيدة الثمن ولكنها مرآة للجمال وتمنح كل منا سعادة خاصة به. هذه الحديقة الخلفية لذاتِ كل منا، هي الأجمل، الأروع لأننا نخبيء هناك وبين ثناياها السرية أرواحنا، حيث يقبع الضعف، الرقة، الحب، العطف، الشفقة، الدموع المكتومة، كل ما في بشريتنا من هشاشة ولكنها أجمل ما بنا لأنها خالية من التكبر والمكابرة، خالية من القسوة أو تصنع القسوة، خالية من اللؤم والحسد لأننا لا يمكن أن نحمل اللؤم لذواتنا أو الحسد. وحين يتمكن الكاتب من دخول الحديقة الخلفية للقاريء فهو فعلاً كاتب يحمل المحبة للقاريء ولا يطلب منه القراءة إفتخاراً بما يكتب، بل محباً لمن يقرأ له وتقديراً له أيضاً ، لأن القاريء هو أروع ما في حياة الكاتب ، فهو يمنحه الوقت والشعور بلا مقابل، بل والإعجاب أيضاً؛ ولا يمكن أن يوجد كاتب أو يتم الإعتراف بالكاتب دون قاريء منح الوقت والإهتمام، لذلك فإن أرفع الجوائز التقديريه للكاتب لا تعادل إهتمام قاريء يمنح وقته وتفكيره لما كتب الكاتب.
ومن أهم زوايا الحديقة الخلفية للقاريء هي زاوية القصة الانسانية والتي تبدأ بكان ياما كان والتي تبدأ بها هذه القصة:
( قالت لي جدتي في ليلة من ليالي الشتاء الباردة:
كان ياما كان هناك أم حملت ثلاث مرت وكانت في كل مرت تجهض جنينها في الشهر الخامس، ثم حملت مرة رابعة وأنجبت طفلاً جميلاً، وكانت سعادتها به لا توصف، وبعد أن بلغ سن الثالثة أصابته الحمى ومات في ليلة شتوية شديدة البرودة. تلك الأم أغلقت أبواب بيتها، رفضت أن تقابل أي انسان، حتى زوجها لم ترغب بالحديث معه، وكانت تلوم القدر وتتأوه: لماذا أنا؟ كل النساء يُنجبن ويربين أولادهن ويسعدن بهم لماذا أنا؟ أين العدل في كل ما ألاقيه؟ ويستمر بكاءها لشهور وشهور. وغرق الزوج بالصمت أيضاً.
وفي يومٍ ما وقعت كرة صغيرة في ساحة منزلها، ثم سمعت طرقات خفيفة على البيت، نهضت بتثاقل لترى من الطارق، وجدت صبي صغير يقف أمامها ويقول لها بأن كرته الصغيرة وقعت في فناء منزلها. ولأول مرة منذ سنواتٍ طويلة تبتسم. طلبت منه الدخول، فنظر من حوله ورأى الألعاب التي كانت لطلفها الذي مات منذ سنوات، إقترب منها بتردد وسألها لمن هذه الألعاب أجباته بأنها لابنها الذي مات. قال لها باستغراب:
_ ولماذا تحتفظين بها ؟ أعطيها لطفلٍ آخر ليلعب بها.
_ لكي أتذكره دائماً.
أجابها ببراءة:
_ أمي ماتت منذ سنوات، ولا أحتاج لأي شيء لأتذكرها به فهي دائماً معي.
_ لابد أنه كان صعب عليك أن تفقد والدتك!
_ أجل، ولكن جدتي قالت لي بأنها إرادة الله ولابد من قبولها.
صمتت للحظات وسالته:
_ وأنت تعيش مع جدتك؟
_ أجل وأبي.
_ هل تريد أخذ أي من هذه الألعاب؟
_ هل أستطيع ذلك؟
_ أجل، وإن كنت تريد أن تأخذ لعبة كل يوم فتعال وخذ ما شئت.
وكان ذلك الطفل الصغير هو السبب بتغيير حياتها؛ بدأت تفتح باب البيت والنوافذ، وبعد سنوات من السخط بدأ الرضى يدخل إلى قلبها. وحين رضيت وقبلت بقضاء الله وخلال عامٍ واحد فقط أنجبت فتاة جميلة وبصحة جيدة وهي تعيش معها ومع أحفادها. هل تعرفين من هذه المرأة يا نجلاء؟
فتحت عيناي لأنظر إليها لأنها كانت تعلم بأنني لستُ نائمة، تابعت قائلة:
_ إنها أنا، لقد رفضت قبول قضاء الله لسنوات، تذمرت وغضبت وكرهت الوجود لأنني لا أستطيع أن أحصل على ما أريد؛ ذلك الطفل علمني كيف أقبل بما يأتي به القدر برحابة صدر ودون تذمر وبصبر، وحين رضيت وقبلت منحني الله تعالى ما كنت أريد. يا ابنتي، في هذه الحياة نتقابل ونفترق من خلال الموت أو السفر، أو حتى الكره وربما المرض، نحن لسنا سوى عباد لله تعالى يُجري قضاءه علينا بإرادته وبحكمته، فإن لم ترضي لن تشعري بالراحة. لا يمكن لأي منا أن يحصل على كل ما يريد، السعادة الحقيقية بهذه الحياة هي بالرضا بما يمنحك الله وبما يأخذ منك، فأنت لست سوى مخلوق منحه الحياة لزمنٍ ما على هذه الأرض، فليكن الحمد الشكر طريقك نحو الرضى ولا تعتقدي أن الحزن يغير القدر ولا يؤخره أو يقدمه. الإيمان
يا ابنتي ليس فقط الإنقياد لأوامر الله والإبتعاد عن نواهيه بل أيضاً قبول تصاريف تقديره في قدرنا.
لقد عشت كثيراً وقابلت الكثير من الناس، رأيتهم يصبحون أغنياء ثم فقراء أو العكس، يكونون أصحاء ثم يصبحون مرضى، كل يوم هناك من يموت وهناك من يولد، بيوت أصبحت مهجورة بعد أن كانت معمورة وبيوت أصبحت معمورة بعد طول هجر؛ فأدركت وعلمت بأننا لسنا سوى عابري سبيل فأنقطع الحزن من حياتي، وتلاشت الحسرة من نفسي، وأصبحت القناعة أجمل ما أحيا به. حاولي ولو لدقائق في كل يوم أن ترحلي عن هذه الأرض، أن تسافري بروحك نحو خالقك قبل أن تغادر هذه الروح رُغماً عنها للقاء خالقها، أحبي هذا اللقاء وأنت حية كي لا تخشيه حين يأتي الموت، فمن أحب الله لا يعرف الموت.
غفوت بحضن جدتي الدافيء والتي رحلت عن الحياة، ولكن تلك اللحظات عاشت خالدة في مشاعري، وكان ياما كان لم تعد بداية قصة قصيرة، ولكنها نسمة دفء تأتيني من عالمٍ بعيد وراحل ولكنه زهرة لا تذبل في روحي.)