أهتم بكتابات ابن تيمية منذ أن قررت البحث عن أصول ثقافة التخلف في واقعنا العربي الإسلامي;
ولذلك حرصت علي قراءة ما استطعت من كتبه وفتاواه, وأن أقارن بين أفكاره القديمة ودعاوي زعماء التأسلم المعاصر.
ذلك علي اختلاف أسمائهم العديدة التي تجمع بين طوائف السلفيين والجهاديين, ومن أطلقوا علي أنفسهم اسم الجماعة الإسلامية, إلي غيرها من التسميات التي تشمل جماعة الإخوان المسلمين. ولم أر في الأمر غرابة عندما قرأت للأستاذ راشد الغنوشي أن ابن تيمية هو أبو الصحوة الإسلامية. وهي التسمية التي يتعلق بها دعاة الدولة الدينية الذين تكاثروا علي نحو خاص, بعد هزيمة دولة المشروع القومي الناصري في.1967 ومنذ ذلك العام بدأنا نسمع عن هذه الصحوة الإسلامية التي لاذت بكتب ابن تيمية واعتبرتها أصلا لأفكارها, بل الأصل بألف لام الحصر, مع ابن تيمية الذي ينتسب إلي المذهب الحنبلي في النهاية, خصوصا في صيغته التي اتخذت مسمي أهل السنة والجماعة, ثم السلفية الذين يتبعون السلف الصالح في أخذ دينهم من القرآن الكريم والسنة النبوية, بعيدا عن التأويل وما يقترن به من إعمال العقل. وقد عاش ابن تيمية ما بين القرنين السابع والثامن للهجرة(661 هـ/1263م-728 هـ/1328م) في زمن انحطاط وانحدار وهزائم ومخاطر غزو خارجي, وهو نفسه قد حارب التتار, وحض علي جهادهم وقتالهم, شأنهم في ذلك شأن أعداء الإسلام من الصليبيين. وهو- فضلا عن ذلك- يرجع إليه الفضل في ضم أشتات الفكر السلفي, وصياغته صياغة فكرية متكاملة نسبيا.
وقد حرص فكر الصحوة الإسلامية علي أن يستبدل بمشروع الدولة القومية( الناصرية- البعثية) مشروع الدولة الدينية التي بشرت بها هذه الصحوة في صعودها المدعوم بأموال النفط والولايات المتحدة إلي أن تحقق لها بعض ما تريد مع صعود حركة النهضة التونسية إلي سدة الحكم في تونس, وجماعة الإخوان المسلمين في مصر. وهكذا أصبح فكر ابن تيمية هو الإطار المرجعي العقائدي للدولة الدينية التي سعي حزب النهضة إلي تأسيسها في تونس, وسعي الإخوان إلي تأسيسها في مصر, لكن بطريقة تخلو من أي رشد سياسي, الأمر الذي أدي إلي سقوطهم وخلع محمد مرسي في الثلاثين من يونيو في العام الماضي. ولكن أنصار الصحوة الإسلامية من الإخوان لم يتخلوا عن حلم الدولة الدينية, موصولة بإحياء الخلافة الإسلامية, ومن ثم هدم معاني الوطن والمواطنة. وأغلب الظن أنهم لن يتخلوا عن إرهابهم في القريب العاجل, مستندين إلي أفكار ابن تيمية عن الجهاد وتكفير الخارجين علي الشرعية السياسية التي أصبحت شريعة دينية تتأجج بدعم نفطي وأمريكي.
وأفضل ما قرأت عن ابن تيمية كتاب رائد السمهوري نقد الخطاب السلفي: ابن تيمية نموذجا. والكتاب تحليل عقلاني رصين لفكر ابن تيمية, معتمدا علي كتبه ورسائله وفتاواه, وعلي عدد من شراحه الوهابيين أهمهم ابن باز(1910-1999 م), وابن عثيمين(1925-2001م). ويعرض الكتاب لموقف ابن تيمية من الآخر أولا وفهمه لعقيدة التوحيد ثانيا, والإيمان بالقدر ثالثا, والعقل والنقل رابعا, والهجوم علي أصحاب المذاهب العقلانية والمتكلمين, وعلي رأسهم المعتزلة أخيرا. وأهم ما يلفت النظر في التحليل هو النظرة الدونية المستريبة التي ينظر بها ابن تيمية إلي الآخر المسلم وغير المسلم; فالأول في وضع أدني هو والضلال سواء, ما ظل بعيدا عن العقيدة السلفية التي حلت محل الدين الإسلامي عند ابن تيمية, أما الثاني غير المسلم فهو في منزلة الكافر الذي تلزم معاملته علي هذا الأساس ما ظل عدوا لله ودينه, كارها للمسلمين, وعاملا علي هدم دينهم. وهو متهم أبدا عند السلفي الذي يمكن أن يتقبل مبدأ المواطنة التي تقوم عليه الدولة الدينية تلك التي لا يمكن أن تقبل سوي المسلم الحق وهو السلفي, وتستبعد المسلم الضال, سواء كان من الشيعة أو الأزارقة أو الأباضية, أما غير المسلم فهو عدو أيا كانت ملته. وبديهي أن تقوم هذه النظرة علي تراتيبة قمعية; فالمسلم السلفي له المكانة العليا في المجتمع الإسلامي فيما يتخيله ابن تيمية, والمسلم غير السلفي له المكانة الدنيا في التراتب الاجتماعي, وأدني منه غير المسلم من الذميين.
وتقع المرأة في فكر ابن تيمية موقع الآخر الذي تحيطه الريبة وتلازمه أبشع التهم. وابتداء فهي عورة. والعورة قرينة قبح السريرة وسوء الطوية, ومنبع الإثم والشر والمعصية. ويعلق رائد السمهوري علي هذا الوصف بأنه, وبهذا الإطلاق, لم يرد في كتاب الله ولا في سنة صحيحة متفق عليها, ولكنه تعبير شائع عند كثير من الفقهاء. وهذا صحيح. ولكن من يتصور المرأة بوصفها عورة فإنه يتصورها علي أنها شيء يخجل منه, ويستقبح ذكره, ويجب ستره وإخفاؤه عن الناس, علي قاعدة: إذا بليتم فاستتروا. ولن يترتب علي مفهوم العورة اختزال حضور المرأة في الوظيفة الجنسية فحسب, وإنما يتعدي ذلك إلي أمرين: أولهما الملبس; فالعورة لابد من سترها عن الأعين وإخفائها, وإلا كان صاحبها في منزلة من يعرض عورة جسده علي الناس, فالأليق به ألا يكتفي بالحجاب, وإنما يلجأ إلي النقاب الذي يخفي كل شيء من المرأة.
أما الأمر الثاني فهو العقل. وبما أن المرأة عورة فهي أداة للجنس. والأداة لا عقل لها ولا تمييز, ولا وظيفة إلا إشباع الغريزة. ولذلك يرفض ابن تيمية ما رآه المعتزلة من وجوب النظر والاستدلال علي كل أحد حتي علي العامة والنساء, فهذا إسراف في تكليف النساء بما لا يطقن. ويعني ذلك أن المرأة ناقصة في مقابل كمال الرجل الذي هو سيدها وولي أمرها في كل الأحوال.
ويتبع ذلك أن كل ما يتمتع به الرجل في علاقته بربه لا يمكن أن تتمتع به المرأة, ولذلك يميل ابن تيمية إلي احتمال, وليس تأكيد, أن تري المرأة الله يوم القيامة, بينما الرؤية مؤكدة للذكر الأكمل, ذلك الذي يلزم عن كمال ذكورته كمال عقله, وتمام حسه, وكونه أكثر مقاومة للرذائل التي تنجذب إليها المرأة- بحكم طبعها- انجذاب الفراشات إلي النار. والنتيجة هي تحريم الخلوة بالمرأة حتي لو كان ذلك من أجل عمل جليل, وإمامة المرأة للرجال في الصلاة محرمة تحريم إمامتها للأمة, وقتلها علي مظنة الإخلال بالشرف مباح. ولا يبقي بعد ذلك إلا أن تكون المرأة في حكم الأسيرة والأمة. ولا عجب أن تتشابه أحكام الزواج وأحكام الرق; فالنكاح أو الزواج هو استرقاق رجل لامرأة. هكذا تصبح ولاية الرجل علي المرأة مطلقة, والإنفاق عليها بعض لوازم إنفاق الرجل علي رقيقه وبهائمه.
أعترف أني أفهم مبررات موقف ابن تيمية الفقهي من الآخر; فقد عاش الرجل في عصر مظلم من تهديد غير العرب والمسلمين للعرب والمسلمين; فلم ير في نصاري الشام غير أعوان للصليبيين, ولكن موقفه من المرأة غريب حتي علي الشريعة الإسلامية السمحاء وعلي ما تعلمناه منها عن استيصاء الرجال بالنساء, ومن أن النساء شقائق الرجال, ومن أن نأخذ نصف ديننا عن هذه الحميراء, ومن الأمر بالإحسان إلي المرأة والنهي عن ظلمها. والحق أن ابن تيمية لم يكن في ذلك وحده; فقد سبقه من مهد له الطريق, وتبعه من زاد عليه في التطرف. وكأن هذا الرجل الذي لم يتزوج ترك كرهه للمرأة وسوء ظنه بها, ميراثا لمن تبعه في ظلم المرأة واستمرارا للتمييز ضدها.