هذا المقال يكمل ما قبله ولا يناقضه ..
يقول مصطفى صادق الرافعي في كتاب أوراق الورد " واعتَبِرْ ذَلِك بِالمَرأَة تَدرس وَتَتعَلَّم وَتَنبُغ، فَلَو أنَّك ذَهَبت تَمدَحُهَا بوُفُور عَقلِهَا وَذَكَائِهَا، وَتُقَرِّظُهَا بِنُبُوغِهَا وَعَبقَرِيَتِها، ثُم رَأَتكَ لَم تُلقِ كَلِمَة وَلَا إشَارَة وَلا نَظرَة عَلَى مَحَاسِنِهَا! لتَحَوَّل عِندَهَا كُل مَدحِك ذمًّا، وَكُلَّ ثَنَائِك سُخرِيَة"!
أتعجب كثيراً كلما قرأت لهذا الرجل الفذ.. وأبتسم، كيف يغوص في أعماق النفس الإنسانية بكل رشاقة وكأنه يسبح بين التفاصيل ويغزل منها لحناً متجانس الأنغام، وحينما يتعلق الأمر بالأنثى، تزداد معزوفاته بهاء وعذوبة! كيف لرجل أن يصف الأنثى بتلك الدقة، كيف له أن يصل لمشاعرها التي تبدو متناقضة ولكنه يفهمها عن كثب؟! كيف عرف الرافعي أن المرأة مهما بلغت من نبوغ وعبقرية وقوة ومركز اجتماعي، لن يغنيها كل ذلك عن امتداح جمال شكلها، ولطف حديثها، ورقة روحها، وجاذبية أخلاقها!
كلما قرأت للرافعي شعرت أنه يرى الأنثى على غير ما يراه الناس، وعلى غير ما تراه هي حتى!، يظن الكثيرون والكثيرات أن الأنوثة تعني الضعف والاعتمادية، لذا حينما تكون المرأة صلبة الرأي، قوية الحجة، صارخة الجدلية، سرعان ما تُجرد من أنوثتها، وتُخرج إلى ميدان المقارنة بالرجل، وأحيانا تبدأ هي بفتح هذا الباب، فتعتاد ارتفاع صوتها، وخشونة أحاديثها، تستخدم المصطحات ذاتها التي يستخدمها الشبان، تلجأ كثيرا إلى قص شعرها، تدين بالنسوية المطلقة، وتتسارع لتصارع الرجل في ميادينه التي اشتهر بها، فيأتي أحدهم قائلاً لها "انتي بنت ما ينفعش تعملي كذا" فتستثار أكثر ، وتنتفض لإزالة تلك الوصمة، ذلك الحمل الذي أثقل عاتقها، بكونها أنثى! لتبين أنها أكثر قوة، أكثر قدرة وأكثر تمردا!
وحده الرافعي وجدته يعترف للمرأة باستقلاليتها، بمعناها الإنساني المجرد من نظرته القاصرة كرجل، يعترف بفضيلتها، بعقلها، بتفوقها، ولكن دون أن يخلع عنها أنوثتها الكاملة، أنوثتها التي تعني لديه - وأنا أتفق معه- أنها كالحياة بلطفها وعذوبتها ونشوتها وسعادتها، وبكل أحزانها كذلك!
" لا يتصِل بروحِها شَيءٌ إلا نَبَتَ وَاخضَرّ, ثمَّ نُورَ وأزْهَر؛
كأنَّ طَبِيعَة الجَمَال خَبَّأت فِي قَلبِهَا سِرَّ الرَّبِيع..
إنَّ المَرْأَةَ خَصْمٌ عَنِيدٌ لَا يقتلُ بِالغَضَبِ وَلَكِن يقتل بِالضَحكِ،
وَشَرُ مَا فِيهَا أَنَّها إنْ لَم يَكُن مِنهَا قَتْلٌ فَلَيسَ مَعَهَا حَيَاةٌ .. !"
"في قلبها".. تلك هي كلمة السر في الأنثى، الذي يمكنها من جمع المتناقضات، من لعب أدوار متعددة في الحياة، قلبها الذي لا تستطيع أن تستغني عنه أبداً.
وما كان الرافعي في الحقيقة إلا اقتباسا من أدب ورقي النبوة، حينما تأتي للسنة النبوية تجد النبي قد وصف النساء "بالقوارير" شبهها بالزجاج أو الكريستال، الذي يذهب الألباب بنقائه وجماله ورقة تفاصيله، وهو شفاف كذلك تستطيع بسهولة رؤية ما بداخله، ولكنه أيضاً سهل الكسر !
دعونا نتفق أن حياتنا اليوم قاسية على كلينا، نساء كنا أم رجالا، تحديات كثيرة تفقدنا الكثير من إنسانيتنا قبل أن تفقدنا شيئاً من رجولة أو أنوثة، المشاهد اليومية التي ترهق إنسانيتنا وتضعها على المحك، بل تضع مبائدنا وقيمنا على المحك, كلها كفيلة بسلبنا قلوبنا تدريجياً، ولأن المرأة قلب كلها حتى وهي مفكرة ورائدة وقائدة، فإنه يمكن أن تظهر فيها تجاعيد الزمن بصورة أوضح، وتترك تلك المعارك خدوشاً على روحها الشفافة.
وأكاد أجزم أننا نحن النساء ندخل في معركة "الأنوثة" كل يوم، ساعين فيها للاتزان بين أرواحنا الأنثوية الرقيقة، والتزاماتنا ومسؤولياتنا التي تبدو أكثر قسوة من دواخلنا.
ولكن هذا لا يعني أن نتجنب المعارك، بل يعني أن ندخلها ونحن مدركات أننا ذوات طبيعة خاصة، مختلفة، لأننا إناثاً نختلف عن الرجال، اختلاف تمايز لا نقص ,,
لا تنزعجي كثيراً إن حز بك أمر فبكيت في عملك أمام الناس، فأنت أنثى لا تستطيع السيطرة على انفعالاتها بصورة مستمرة، حتى وإن كنت مديرتهم جميعاً, أعلم أنك بعدها سوف تستطيعين إعادة كل الأمور لنصابها الصحيح بشيء من الحزم الذي تحترفينه، ولكن بعد الانتهاء من البكاء,,
لا تشعري بالذنب إن أطرى أحدهم على رقتك وجمالك وشعرت بخافقك يقفز من الفرح بداخلك، وإن كان ذلك لن يمنعك أن توقفيه عند حده وتعلميه بصرامة كيف يجب أن يتعامل معك,,
لا تنهمكي في أهدافك وطموحاتك، وتنسي الاستمتاع بأمومتك، اللعب مع أطفالك، واحتضانهم بدفء قبل أن يناموا ,,
لا تنسي الحب، لا تصنعي أمامك ألف جسر لعدم الوقوع فيه خشية أن تذوبي، ادخليه بدفئك وصدقك وجنونك، اصنعي حباً بنكهتك الخاصة، حباً يذوب فيك أنتِ.
لا تستمعي لأحدهم يخبرك أن الاهتمام بقضايا الأمة وحمل هم الناس وأحوال البلاد يتناقض مع اهتمامك بصحتك وجمالك وانتقاء ألوان ملابسك بعناية ,,
اذهبي لمحاضرات وندوات ثقافية، جادلي واصدعي برأيك، ولكن لا تنسي أن تذهبي بعدها لصالون التجميل، اقرأي في الفلسفة، التاريخ، والسياسة، ولكن لا تهملي القراءة في فلسفة الحب، وتاريخ العشاق، وسياسة التعامل مع الأطفال.
كوني كما أرادك الله أن تكوني ، كيانا كاملا لا نقصان فيه، ولكنه كيان أنثوي مختلف، مفرط الحساسية، دموعه قريبة.. كوني قلباً ودفئاً ولا تجردي نفسك يوماً من كل ذلك، مهما بلغت صعوبة الحياة ومسؤولياتها عليك، اصنعي لنفسك يوماً لك، لك وحدك، لتستعيدي فيه الأنثى التي أرهقتها الأيام ,,
كوني كالحياة باتساعها وتناقضاتها وتمردها، واتزانها بين القوة والضعف، بين الشدة والرخاء، بين الفرح والحزن، تذكري دوماً أنك ذلك القلب الذي يحمل الحب والدفء لذاته وللجميع وتذكري أيضاً أنك ذاك العقل النابض الواعي السفوري الذي يقود ويربي ويوجه، أنت تحملين بين جنباتك كلا المتناقضين، فقط لأنك امرأة ,,
حاولي ,, وسأحاول أنا معك أيضا حتى وإن لم نصل لهذا الاتزان الكامل، يكفينا أن نسعى إليه، لأننا نستحق أن نكون كما أراد الله لنا أن نكون .
" وَالقُلُوبُ فِي الرِجَال لَيسَت حَقِيقَة أَبَدًا، بِطَبِيعَة أَعمَالِهم فِي الحَيَاة وَأَمكِنَتِهِم مِنَها،
وَلَكِن القّلْبَ الحَقِيقِي هُوَ فِي المَرأَة ..
وَلِذَا يَنبَغِي أَنْ يَكونَ فِيه السُمُو فَوقَ كِّل شَيء إلا وَاجِب الرَّحمَة؛
ذَلك الوَاجِب الذِي يَتجِه إلَى القَوِي فَيَكُونُ حُبًّا، وَيتجِه إلَى الضَعِيف فَيَكُونُ حَنَانًا وَرِقَّة،
ذَلِكَ الوَاجِب هُوَ اللُّطْف؛ ذَلِك اللّطف هُوَ الذِي يُثبِت أنَّهَا امرَأَة".