ليست انتخابات اعتيادية، تلك التي جرت مؤخرًا في السعودية لاختيار نحو ألفي عضو في المجالس البلدية المتفرقة في أرجاء البلاد. هذا الحدث الكبير يستحق أن يخضع لتحليل عميق، وأن تفحص تفاصيله تحت المجهر، لقراءة التحولات الهائلة التي يمر بها المجتمع السعودي. وسأحاول، حسبما يتسع المقام، أن أوجز أهم الدلالات التي قد تعطي تصورًا واضحًا عن ماهية هذه التحولات.
العنوان العريض لهذه الانتخابات هو مشاركة المرأة السعودية لأول مرة مرشحةً وناخبة، مما جعلها تحت مراقبة ومتابعة من وسائل الإعلام العالمية التي أبدت اهتمامًا بالتجربة الأولى في بلد لا تمارس فيه المرأة من قبل حق الترشح والانتخاب. كانت فكرتنا أن مشاركة المرأة بحد ذاتها تعد تقدمًا كبيرًا في سبيل تحصيل مزيد من حقوقها، بصرف النظر عن النتيجة. لم يكن هناك قلق من فشلها في الحصول على مقعد، كان جل المخاوف ألا يجد هذا القرار، الذي دفعت به الدولة، تفاعلاً إيجابيًا من الناس خلال تطبيقه يكافئ قيمته الاجتماعية والسياسية المأمولة. إنما جاءت النتائج مذهلة، مبهجة كمواسم الأعياد، الآباء يدلون بأصواتهم لبناتهم، والأزواج لزوجاتهم، والإخوة لأخواتهم، وأهالي البلدات من الرجال يحتفون بفوز واحدة من بناتهم بإدارة مجلسهم البلدي. عشرون امرأة سعودية فازت في أول تجربة انتخابية في تاريخ السعودية، ولو فاز ربع هذا العدد لظل إنجازًا تاريخيًا ثمينًا. مثلت نسبة المرشحات إلى المرشحين واحدًا إلى ستة، ونسبة المقاعد التي أحرزتها المرأة تمثل تقريبًا واحدًا في المائة من مجموع المقاعد، وقد تحظى بمقاعد إضافية بعد أن تتولى الدولة التعيين على الألف مقعد المتبقية التي تختص باختيار أعضائها. الرمزية الجميلة التي لا تفوتني الإشارة إليها، أن أول امرأة فازت في هذه الانتخابات، وهي السيدة سالمة العتيبي، تنتمي لمحافظة مكة المكرمة، العاصمة المقدسة التي عززت مكانة المرأة بمنحها أول فوز تاريخي مستحق.
ومع أن قرار الدولة في عام 2011 بالسماح للمرأة بالعمل الانتخابي تضمن كذلك تعيين 30 امرأة في مجلس الشورى، إلا إنني أعتقد أن النتيجة التي حققتها النساء في الانتخابات البلدية تفوق في أهميتها عضوية الشورى، فهذه الأخيرة هي «كوتة» وضعتها الدولة، وهي التي اختارت أسماء العضوات، أما نتائج الانتخابات البلدية فهي اختيار المجتمع، الناس الذين توجهوا بمحض إرادتهم لاستخراج بطاقة انتخابية ثم منحوا أصواتهم لمرشحيهم وفق رؤيتهم الشخصية. هنا تكونت مقاربة بين رؤية الدولة ورؤية المجتمع، بعد أن كانت الدولة تتقدم بأشواط في رؤيتها التطويرية والحقوقية عن المجتمع السعودي المحافظ.
وعلينا ألا نغفل أهم ما يحدد مسار الانتخابات في أي مكان في العالم، وهي البيئة المحيطة. السعودية مجتمع محافظ، وبعض المناطق تطغى فيها الصبغة المحافظة على مناطق أخرى، فمثلاً القصيم وعسير تعدان أبرز مناطق السعودية من حيث تحفظها على الانفتاح فيما يخص المرأة، ومع ذلك استطاعت ثلاث سيدات الفوز بمقاعد في مجالس تابعة لها، كما أن معظم الفائزات في محافظات السعودية ينتمين إلى بلدات وقرى تمثل العمود الفقري للمجتمع المحافظ. وأعود لأشير إلى أن العبرة ليست بعدد الفائزات ولا بنسبتهن في الكتلة السكانية، بل بالأسرة وأهل الحي والأقرباء والأصدقاء الذين تقبلوا ورحبوا بفكرة أن تترشح نساؤهم في قوائم تنافس من خلالها الرجال، دون أن نسمع عن حوادث عنف أو احتكاك أسري جراء النفور من الفكرة، رغم الدعاية السلبية التي رافقت العملية الانتخابية من بعض المتشددين الذين حاولوا إعاقة العملية الانتخابية من خلال تخويف الناس بحرمة العمل السياسي والإداري للمرأة في الشأن العام، وتكثيف نشر مثل هذه التحذيرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لذلك لا تبدو المقارنة عادلة حين نضع السعودية على كفة ميزان مقابل دول الخليج الأخرى، كدولة الإمارات التي جاءت فيها نتائج الانتخابات الأخيرة لمجلسها الوطني الاتحادي (البرلمان) غير مرضية بفوز امرأة واحدة من إمارة رأس الخيمة، ومثلها كانت النتيجة في سلطنة عمان، فالبيئة الثقافية في دول الخليج تختلف بدرجة كبيرة عن السعودية، فهذه الدول أكثر انفتاحًا وقبولاً للمشاركة النسائية. صحيح أن المرأة الخليجية في العموم لا تزال تعاني من ضعف تأثيرها السياسي وثقلها الانتخابي، لكنها في دول الخليج الأخرى تتمتع بديناميكية أكبر من السعودية، مما يتيح لها فرصًا أكثر لإثبات قدراتها. وأقول، ولعلي مخطئة، إن مثل هذه الفرص التي جاءت دون أسباب تهيئ نجاحها هي فرص في مهب الريح، لذلك لم تحظَ المرأة الكويتية مثلاً بما يرضيها في معظم الانتخابات، ولم تحقق المرأة الإماراتية طموحها ورؤية قيادات الدولة. التهيئة هي كل شيء، وأسباب التهيئة هي ما يمكن أن أسميه «التعبئة الاجتماعية»، فالمرأة في الكويت أصبحت جزءًا من لعبة الرجل السياسية، لأنها تشاركه كثيرًا من الحقوق منذ عقود، لكنه استطاع تحييدها لتكون الشريك الضعيف. أما في السعودية، فهناك تعبئة نفسية واجتماعية هائلة تراكمت لدى المجتمع النسائي بدعم من شريحة واسعة من الرجال المتنورين للنهوض بحقوقها، وقناعة تنامت في السنوات الأخيرة بأن تمكين المرأة وتحسين وضعها الوظيفي والحقوقي هو أحد أهم معايير التقدم والتنمية، وكل ذلك بدعم من الدولة من خلال قرارات متدرجة تتيح للمجتمع تشرب التغيير على مهل.
كنت قد كتبت قبل ثلاث سنوات عن صفة المرأة في المجتمع، هل هي خصم، أم شريك، أم ضحية؟ يبدو أن المرأة في الكويت خصم سهل، وفي السعودية ضحية تجري محاولات لإنقاذها، ربما في البحرين هي الأقرب لتكون شريكًا إذا تم دعمها من خلال عمل مؤسسي.
سنة أولى انتخابات للمرأة السعودية، كانت ناجحة، تنبئ عن تغيير إيجابي أكبر في المستقبل، لكنه لن يأتي مجانًا، ولا هدية من الدولة، سيكون على المرأة التي ما برحت تطالب بحقوقها أن تكون أهلاً للمسؤولية التي أنيطت بها، تتحمل الضغوط وتبتكر الحلول وتكون شريكًا فاعلاً، لا تنتظر أن يفتح لها الرجل الباب على مبدأ «السيدات أولاً»، ففي المنافسة على المصالح يموت الإيثار.