لم يكن عفويا اختيار يوم شديد البرودة لتسليم جثامين الشهداء لذويهم ، فذلك لن يزيد الشهداء الما اكثر مما تالموه في ثلاجات انخفصت حراراتها لادنى من ثمانين درجة ، والهدف كما هو معروف تقليل نسبة المشيعين ووضع المزيد من العراقيل امام المنظمين الذين يعملون ليل نهار لكي تكون مراسم التشييع بالشكل الذي يليق بهؤلاء الشهداء الاكرم منا جميعا.
لربما اعتقدت اسرائيل انها بذلك تحرم الالاف ممن التفوا حول الشهداء فرصتهم الاخيرة في الوداع، ففي كل مرة تزداد الشروط بان يدفن الشهداء ليلا وان يقتصر العدد على عدد قليل من المشيعين وان وان وان ....
لكن المظهر الجليل العظيم الذ ي حملت فيه الاكفان في مواكب مهيبة خرجت فيها كافة المحافظات لتعلن ان الشعب لا يترك شهداءه وحيدين ، وان كل المحاولات لن تثني ي الجماهير الفلسطينية عن الالتفاف حول الشهيد في محطته الاخيرة تعبيرا واضحا عن القيمة العليا للشهادة وقدسية الشهيد وقدسية الدم ، هؤلاء الشهداء الذين استباحت اسرائيل دمهم والذين ما زالوا يسقطون واحدا تلو الاخر ....تهمتهم الوحيدة انهم احبوا وطنهم واستبسلوا في الدفاع عنه.
الفتيات الصغيرات بجدائلهن التي ترتخي على الاكتاف ،االفتية الصغار الذين كانوا على مقاعد الدراسة يحلمون بمتابعة احلامهم الوردية ، الامهات اللواتي تركن خلفهن اطفالا في عمر الورد ، رجال ترجلوا قبل الاوان استهدفتهم يد الغدر هنا وهناك . والد يرفض ان يواري جسد ابنته ، ليعلن رغبته في تشريح جسدها ليحاكم الاحتلال على ما اقترفه بحق هذه الطفلة البريئة ، جدة يدعوا لها احفادها لرقتها وطيبتها التي لم تبخل بها على احد وسجلها الوطني الحافل والتي لامست انسانيتها كل من عرفوها .
في كل مرة تباهي اسرائيل بنفسها كواحة للديمقراطية في وقت ترتكب فيه جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ، فوضعت الجثامين في درجات حرارة متدنية في محاولة لاخفاء ما تقوم به من سرقة للاعضاء او تشويه لاجساد الشهيدات والشهداء . وفي كل يوم توغل اسرائيل في سياساتها العدوانية وتصدر المزيد من القوانين العنصرية واللااخلاقية والتي تتنافى مع كافة المواثيق الدولية .
لا تكتفي سلطات الاحتلال الاسرائيلي باحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في المستشفيات ، بل تتحفظ على جثث الشهداء في نفس المكان الذي تقتلهم وتقديم المساعدة لهم ،. تلقي بالشهداء لساعات طويلة ينزفون لساعات طويلة ثم يستشهدون ، يتعرض لهم المارة ، ينهالون عليهم بالضرب والشتائم والتمثيل باجسادهم .
يغفوا الشهداء تحرسهم ادعية الامهات تبلل جباههم بدموع حرقتها قسوة اللحظة ، وتترقرق قطرات المطر التي اغدقت بها الطبيعة في فلسطين لتمحوا الكثير من الالم الذي ترامى على احسادهم فخطوط الالم ترتسم على الوجوه والاكف والارجل وفي العيون التي غابعت ملامحها من شدة البرودة .
ما اعظم الفكرة ، الشهادة والاستبسال من اجل الدفاع عن الوطن ، وما اصعب اللحظة ، لحظة فراق الاهل والاصحاب ، الاطفال لامهاتهم ، الاباء لابناءهم ، الامهات والجدات ، رفاق الدراسة ، مواسم الفرح والذكريات .
هي لحظات نودع فيها كل شيئ لحظات ، ترتمي خلف اجسادنا حياة حافلة باحلام انسانية جميلة بان لا نمشي في شوارع تخلوا من مدججين بالكراهية ومستوطنين يستبيحون الحياة في كل يوم وان نعيش حياة انسانية طبيعية كباقي شعوب العالم .
تودع الامهات الشهداء ، تسجيهم بالدعاء ودموع طاهرة وقبلات على الجبين ، وابتهالات في الليل والنهار ، تودع الامهات الشهداء بصلابة وبقوة ، لكن القلب يعتصر من مرارة الالم تتوقف النبضات لصعوبة الفراق ، كيف تستطيع الام ان تبقي على الصورة الاخيرة للوداع بين مقلتيها وفي قلبها ، حتى تتغذى بها لسنوات قادمة .
تلك كانت اللحظات الاخيرة لفراق الشهداء ، فلسطين تغدق بعطاءها الرباني بامطار الخصب لتمحوا ذاكرة طريق الالام التي رافقت هؤلاء الشهداء منذ لحظة استهدافهم ، معاناتهم ،تركهم ينزفون حتى لحظة ااستشهادهم ، ووضعهم في ثلاجات الموتى في اجواء البرودة القارسة الى تسليمهم في ظروف صعبة للغاية .
الان تنتهي الرحلة ، الان تلتصق الاجساد برحم الارض ، الان بنتهي عناء الرحلة ، ويتجدد العهد ، عهد الشهداء والاوفياء وعشاق الارض على الدرب سائرون حتى تحقيق الحرية والانتصار .