انتشرت ألقاب الرفعة، والسمو، والجلالة، والفخامة، والسماحة، والعطوفة، والسعادة، وصارت هذه الأسماءُ الطبقَ الشعبي السائد في دول الضعف والانحلال، والقهر والفساد، وهذه الألقاب الجديدة، أعادتني إلى الكتاب المحظور عربيا، وهو من أروع الكتب في علم السياسة، وهو المرجع الرئيس لبيان صفات الاستبداد والقمع، الكتاب، هو (طبائع الاستبداد، ومصارع الفساد) للكاتب عبد الرحمن الكواكبي المتوفى 1902م.
الكاتب يشير في كتابه إلى أبرز سمات الشعوب الواقعة تحت نير الاستبداد، وإلى الحاكم المستبد، فيقول:
" أشد مراتب الاستبداد، والتي يتعوذ بها من الشيطان، هو الحاكم المستبد، المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على لقب ديني"
والكواكبي يضع علامات على الدول المستَبَدِّ بها، ومنها، انتشار ألقاب التعظيم والتفخيم بين العامة والرؤساء.
وهو أيضا يستخلص نتيجة صادمة، وهي من أبرز نتائج الاستبداد فيقول:
" من أبرز نتائج الاستبداد، إرساء جهالة الأمة، والجنود المنظمة، وهما أكبر مصائب الأمم"
يقصد بالجنود المنظمة، هم الجنود الذين يُنظمهم السلطان لخدمته.
كما أن الكواكبي يقول:
" ما مِن مستبدٍ سياسي، إلا ويتخذ له صفة قُدسية، يُشارك بها الله"!!
وقد وصلت درجات المدح عندنا، نحن العرب، أن نُخصص أكثر من ثلثي الشِّعر العربي للمدح، حتى أن الشاعر ابن هانئ الأندلسي قال يمدح الخليفة المُعز لدين الله:
ما شئتَ، لا ما شاءتْ الأقدارُ ........ فاحكم فأنت الواحد القهّــــــارُ
وكأنما أنت النبيُّ محمدٌ...... وكأنما أنصارك الأنصارُ
أنت الذي كانتْ تبشرنا به..... في كتبها الأحبارُ والأخبارُ
هذا الذي تُرجى النجاةُ به.....وبه يُحطُّ الإصر والأوزارُ
كما أضاف بعض أهل الفخر الألقابَ الأكاديمية العلمية الجديدة إلى مخزوناتهم الاستراتيجية من ألقاب الفخر، ألقاب الشهادات العلمية، برفسور، دكتور، أستاذ، وجعلوها (براويز) تزيّن أسماءهم ليحسوا بالرفعة والسمو، فغدا (حرف الدال وبعدها نقطة) لقبا فخريا يدلّ علي الطبيب البشري، والبيطري، والممرض، والصيدلي، ومساعده، ومديري المراكز الطبية، ومساعديهم، وكل المنسوبين لمهنة الطب، وكذلك المحاضرين في الجامعات، ومعظم المنسوبين إليها.
واشتققنا من (جذور ) لغتنا ألفاظا جديدة (للإطراء) لتفي بمتطلبات المرحلة ، ولتلائم (عصر البراويز) مثل:
(سعادة، نيافة، عطوفة، سماحة، جلالة، معالي، قداسة، فخامة، بالإضافة إلى ملحقاتها، مثل الباشا، والبيك، والبيه، والسيد، وصاحب المعالي، وصاحب السمو)
ويبدو أننا سننجح خلال (الخطة العشرية) القادمة في تسديد النقص في المخزون العربي الاحتياطي من براويز الأسماء العربية ، لتلائم طموحنا، ونتمكن بمعونة مَجامع اللغة العربية، من نحت ألقاب تعظيم، وتفخيم، تكفي لخمسة أجيال قادمة، ويمكننا أيضا تعليبها في كبسولات، تشفي من مرض (الدونية) وهذا بالتأكيد سيسجل لنا في موسوعة غينس للأرقام القياسية.!!!!
وللعلم فقط، فقد درس الآخرون نفسيات العرب الجائعة لألفاظ التفخيم، وعطشهم الناجم عن الكبت لألقاب التعظيم، وكانت من نتائج هذه الدراسة، أنهم استعملوها لتطويعنا، وللحصول على موافقتنا على اغتصابهم لأرضنا، فالسعر بخسٌ، فقط.... كومة من ألقاب التعظيم، وشحنة من عبارات المدح، وعبوات من التفخيم، فبها، يحصل الاتفاق:
وإليكم أمثلة من تاريخنا العربي
وجه السير، هنرى مكماهون، المعتمد البريطاني في مصر، الرسالة التالية للشريف، حسين، أمير مكة، في بدايات القرن المنصرم، بالنص التالي:
(إلى السيد، الحسيب، النسيب، سليل الأشراف، وتاج الفخار، وفرع الشجرة المحمدية، والدوحة القرشية الأحمدية، صاحب المقام الرفيع، والمكانة السامية، السيد ابن السيد، والشريف ابن الشريف، السيد الشريف المبجل {دولتلو}!!!!الشريف حسين، سيد الجميع، أمير مكة المكرمة، قبلة العالمين، ومحط رحال المؤمنين الطائعين، عمّت بركته الناس أجمعين.
بعد رفع وافر التحيات العاطرة، والتسليمات القلبية الخالصة، من كل شائبة، نعرض عليك أن لنا الشرف بتقديم واجب الشكر، لإظهاركم عاطفة الاخلاص، وشرف الشعور والاحساسات نحونا).انتهت الرسالة !!!
وكانت النتيجة هذه الرسالة، ليس إقصاء الشريف حسين فقط، بل فرضوا عليه الاقامة الجبرية، ونفوه إلي قبرص، واتهموا حتى زوجته بالسرقة!!
ففي الأندلس ازدهرت ألقابُ، منتصر، ومعتصم، ومؤمن، وواثق، ومنصور، ومهدي، وهادي، ورشيد، ومُعز، ومأمون، ومعتمد، ومعتضد، وأمين، وسيف الدولة، وكافور الدولة، وركن الدولة.
هذه الألقاب حركتْ قريحة الشاعر الأندلسي، أبو بكر بن عمار فقال:
مما يُزَهِّدني في أرضِ أندلسٍ....... القابُ معتضدٍ فيها ومعتمد,
ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعها... كالهِرِّ، يحكي انتفاخا صولةَ الأسدِ