هناك فارق واضح بين أهل النقل وأهل العقل في النظر إلي المرأة علي امتداد التراث العربي. ولكن بسبب غلبة أهل النقل مدعومين بسلطة الاستبداد السياسي، ومن ثم التحالف بين حكام الجور وحلفائهم من فقهاء السلطة، تغلبت النظرة التي ظلت تقوم علي ازدراء المرأة إلي عصرنا الحديث. وحتى بعد أن أصبح لدينا كتابا قاسم أمين (تحرير المرأة، والمرأة الجديدة) وما سبقهما من كتابات نسائية مقاومة لأمثال زينب فواز، لم تنكسر نظرة الازدراء العامة للمرأة، اجتماعيا وسياسيا، إلا مع ثورة 1919 التي شاركت فيها الرجل، وتصدت مثله لرصاص الاحتلال البريطاني، في ثورة جذرية تغلغلت آثارها في كل جوانب الوطن السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى التعليمية؛ فالمرأة لم تحصل علي حقها العادل في التعليم الجامعي إلا بعد ثورة 1919 ودستور 1923 الذي كان من ثمار الثورة، والذي أسس لمبدأ المواطنة بكل ما يتضمنه من معاني المساواة علي كل المستويات.
أما قبل ذلك، وطوال عصور التراث العربي، فقد سادت نظرة سلفية، منذ أن نصر الخليفة المتوكل حلفاءه من أهل النقل علي أهل العقل سنة 234 هجرية، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وإظهار أهل السنة والجماعة فيما يقول المسعودي في تاريخه. ولم يفارق معني التسليم حدود قبول آراء السابقين، وتقليدهم والقياس علي ما قالوه أو ذهبوا إليه في كل شيء. ومن ذلك سوء الظن بالنساء اللائي أصبحن جميعا جند إبليس، واللعنة التي كرستها وعملت علي تثبيتها ثقافة سائدة، لا تزال متواصلة إلي اليوم. ولم يكن من الغريب أن يلجأ أهل التسليم والتقليد إلي اختراع أحاديث نسبوها إلي النبي صلي الله عليه وسلم وصحابته في تأكيد هوان مكانة المرأة، وضرورة سجنها في قمقم يمنعها من إيذاء من حولها.
ذهب الفخر الرازي إلي أن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى، والأفضل الأكمل مقدم علي الأخس الأرذل، وروي عن علي بن أبي طالب أن النساء نواقص الإيمان نواقص الحظوظ نواقص العقول، وأن خيار خصالهن شرار خصال الرجال، وتواترت المرويات عن نقصان النساء علي سبيل العموم والخصوص، وتكاثرت الأحاديث الموضوعة في الحط من شأنهن، والحذر منهن في كل الأحوال. هكذا نسب إلي عمر بن الخطاب أنه قال في حق النساء: أكثر لهن من قول لا، فإن نعم تغريهن علي المسألة. ونسب إلي ابن عباس وإلي عمر النهي الذي يقول: لا تسكنوا النساء العلالي، ولا تعلموهن الكتابة.
وحتى خارج هذه المرويات التي أري أن أغلبها موضوع، فإن النظرة المزدرية للمرأة ظلت قائمة، يرعاها، ويؤكد حضورها، ويدافع عنها الذين لا يتورعون عن التدليس والكذب في تأويل الحديث: ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة. وذلك للإبقاء علي السجن الاجتماعي السياسي للمرأة التي لابد أن تظل جاهلة، طائعة، مذعنة، أسيرة صورة نمطية يرفضها العقل فكيف ينهي النبي صلي الله عليه وسلم عن إسكان النساء في العلالي من الغرف، مثلا، والله تعالي يقول: أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن. (الطلاق: 6). وقد تواترت أحاديث عن أن النبي لم يمنع تعليم زوجاته الكتابة. ولكن مرت قرون وقرون إلي أن قبل أهل التسليم والتقليد هذا التواتر، وتوقفوا عن رفض تعليم البنات فيما عدا أمثال طالبان من المتعصبين لأهل التسليم والتقليد.
وظلت نظرة أهل التسليم والتقليد محافظة علي سوء ظنها بالمرأة، نتيجة ما أمروا بالحفاظ عليه من تعاليم معادية للعقل وأهله، هكذا ساروا علي تقاليد ازدراء المرأة التي جذبت إليها، لسطوتها، بعض هؤلاء الذين كنا نظن أنهم أقرب إلي أهل العقل منهم إلي أهل التسليم والتقليد. والدليل علي ذلك ما يذكره أبو حيان التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة من حوار جري ما بينه والوزير صمصام الدولة البويهي الذي ذهب إلي أن الله سبحانه وتعالي شرف الإناث بتقديم ذكرهن في الآية يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور (الشوري 49). ولكن أبا حيان رفض هذا التفسير، مؤكدا أن تقديم الإناث اقترن بصيغة التنكير، بينما تأخير الذكور اقترن بالتعريف، والتعريف بالتأخير أشرف من النكرة بالتقديم. ويمضي أبو حيان في تأكيد ارتفاع مكانة الذكر علي الأنثى. وظني أن أبا حيان لم يستطع تجاوز الثقافة السائدة في عصره، فمضي في ركاب التهوين من مكانة المرأة، مقابل تفضيل الذكر علي الأنثى مطلقا، فقد كان وعيه محاصرا بمرويات تقول: النساء شر كلهن. لا تثق بامرأة. من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه. ذل من أسند أمره إلي امرأة. من اقتراب الساعة طاعة النساء. إياك ومشورة النساء، فإن رأيهن إلي أفن. لا تطلعوا النساء علي حال ولا تأمنوهن علي مال. هن عوادي يوسف. كرامة النساء دفنهن. ويكثر في اللغة التراثية ضرب المثل بالمرأة في ضعف الرأي وانعدام الحكمة، فيقال: رأي نساء تحقيرا لشأنهن، كما يقال: شاوروهن وخالفوهن كما لو كان الصواب هو نقيض ما تذهب إليه النساء مطلقا. ولذلك نسبوا إلي الشيطان أنه قال: سهمي الذي إذا رميت به لم أخطئ: النساء. ولا تعني كل هذه المرويات التي هي أمثلة علي ما هو أضعاف أضعافها أن الثقافة التي سادت، واستمرت في السيادة، هي النظرة التي تخلع عن المرأة كل قيمة ومكانة، ولا تري فيها سوي عورة ينبغي أن تستر، أو تخفي عن الأعين اتقاء لغوايتها، وحماية لمن حولها من شرورها التي جعلت من وجودها نفسه أخطر أسلحة الشيطان.
مؤكد أن لهذه النظرة جذورا جاهلية سابقة علي الإسلام، بل إننا قد نجد شيئا منها في حضارات أقدم من حضارة العرب. ولكني أذهب إلي أن التيارات العقلانية في الإسلام كان يمكنها أن تتصدي لهذه النظرة. ولكن انكسار هذه التيارات في معركتها الأولي في عهد الخليفة المتوكل الذي أمر الناس بالتسليم والتقليد حالت دون هذه التيارات والتصدي للمتوارث الجاهلي فيما يتصل بازدراء المرأة. وكانت النتيجة شيوع هذا الازدراء، خصوصا بعد أن وجد هذا الازدراء من يستفيد منه اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. فحيل بين المرأة وإدارة أحوال الأمة علي أساس من التأويل الحرفي المغلوط للحديث ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة. ومنعتها قرون عديدة من التعليم لاستغلال جهلهن اجتماعيا واقتصاديا. ولا تزال بعض الأسر في الصعيد تحرم المرأة حقها من ميراثها الشرعي. ولن ننسي اعتراض ممثل السلفية (في أثناء إعداد الدستور) عندما سمع عن مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات. ولكن ليس الرجل وحده مذنبا في هذا الأمر، فمن النساء من تأدلجت عقولهن بثوابت تراث التخلف، فصرن أشد عداء لتحرير المرأة من الرجال، وأكثر عداوة لمبدأ المواطنة ولوازم مدلولاته التي تعني المساواة في جميع الحقوق والواجبات بين كل المواطنين، بعيدا عن أشكال التمييز بالجنس أو النوع. ولذلك أزعم أننا لا نزال نعيش في ثقافة التخلف التي لم تفارق سطوتها الكثرة الكاثرة من أبناء أمة تسيطر فيها الأمية، وكذلك الفقر المدقع علي ما يقرب من نصف عدد سكانها.