لم يعد الرؤساء والزعماء والملوك هم الذين يسيرون رعيتهم، ويتحكمون في مصائرهم، ولم يعد حاكمو دول العالم يقودون شعوبهم كما يرغبون، فقد انتهى عصرهم، وزال ملكهم، المجد اليوم لقائد الأمم، ومُسيِّر البشرية جمعاء، الإعلام، فهو الإمبراطور الأوحد، المهيمن الجبار، الذي يقود ويوجه، ويحدد مصائر كل شعوب الأرض، وما الحكامُ والأباطرةُ والملوك الأثريون، سوى صورٍ باهتة لعهدٍ انتهى وولَّى!
ها هو الإعلام اليوم بجيوشه من المحللين والمذيعين ومقدمي برامج( صراع الدِّيَكة)، ومعدي الأفلام الوثائقية الموجهة، ومعهم المراسلون، ممن يلبسون خوذات الحرب، والستر الواقية من الرصاص، ويتجولون في مًدرعاتٍ خاصة، هم جنود الحرب، وفيالق الفتح، وكتائب الهجوم المتقدمة.
وها هي مواقع التصفح الإلكترونية، تغزو ثقافتنا، وتسيِّر توجهاتنا، وتشعلُ مخاوفنا، وتطفئ رغباتنا، وتقودنا إلى زواياها الخاصة، واستطاعت خلال سنوات قليلة أن تحولنا من مجموعة عقول وآراء فكرية متعددة، إلى قطعانٍ بشرية، تأكل، وتشرب، لتترهل، وتمرض، وتستهلك فقط، الغذاء، والكساء، والدواء!
فقد أثبت الإعلامُ خلال الأسبوع الفائت قدراتِه العظيمة على تطويعنا، فقد فرض الإعلامُ منع التجول، وحظر الخروج من البيوت، بلا مكبرات صوت، وبلا أوامر من المسؤولين، بحجة أن موجة من البرد ستصل بلادنا، من يوم 23/1/2016 وتستمر خمسة أيام متوالية، فعطلنا المدارس، وألغينا أسبوعا من حياتنا، في جوٍ عادي، جربناه طوال سنوات عمرنا، غير أن الإعلام أعاد صياغته هذه السنة من جديد، وكأنه لم يحدث أبدا!
تذكرتُ حدثا آخر جرَّب فيه الإعلامُ قدراتِه على تطويعنا، والتأثير علينا، وقيادتنا، عندما أقنعنا ذات يوم في بداية الألفية، بأن كسوفا سيحدث للشمس في وسط النهار، وأن النظر إلى الشمس، يمكن أن يُسبِّبَ العمى، فلزم الناس بيوتهم، ولم يخرج منهم سوى المغامرين، ممن لم يحصلوا على (الجنسية الإعلامية) وهم بالمناسبة في طور الانقراض، فقد صارتْ الجنسيةُ الإعلامية في ألفيتنا هي جنسية المستقبل القريب، وسوف تزول، تبعا لذلك، كل جنسيات الدول التقليدية، وتصير هويتُنا الجديدة، مكونة من إيميلاتنا، وصفحاتنا الرقمية، وخاتم الشبكات فوق صورنا، وعدد اللايكات التي جمعناها لإمبراطورية الإعلام الكبرى!
وإليكم خطوات الحصول على الجنسية الإعلامية:
يتقدم طالب الجنسية بطلب (رقمي) على صفحته الخاصة، التي تحمل بصماته الجينية، والفكرية، وتكشف كل مكنوناتِه وأسرارَه، ففي الصفحة ملخص كامل وشامل للنفسية وطريقة الحياة، وفيها مفتاح الآمال والرغبات، مشفوعةً بعدد مِن الصور اليومية، لا يقل عن عشرين صورة في اليوم الواحد، على أن تكون الصور، بعدسة من هاتفٍ تزيد قدرة الكاميرا فيه عن ستين بي إكس إل، بحيث تصور المحيطَ كلَّهُ!
تقوم لجنة من معدي برامج الشبكة بدراسة هذا الطلب إلكترونيا، وبعد موافقة اللجنة يَمثُل طالبُ الجنسية، أمام لجنة إعلامية مكونة من أباطرة دولة الإعلام، أمام عدساتهم وإليكم أعضاء لجنة تدشين جنسية إمبراطورية الإعلام الجماهيرية الشعبية الكبرى:
مارك زوكنبرغ، ممثلا للفيس بوك، وجيري يارنغ، ممثلا للياهو، وسيرغي برين، ممثلا لشركة غوغول، وجاك دورسي، ممثلا للتويتر، وجيمي والس، ممثلا للويكيبيديا، على أن يرأس هؤلاءٍ جميعَهم، القيصرُ الروسي العملاقُ، إيفان كاسبرسكي، مؤسس مضاد الفايروسات والتجسس كاسبرسكاي، وأن يكون بل غيتس مؤسس المايكروسوفت نائبَه الدائم!!
أما قسمُ الولاء لدولة الإعلام فيجب أن يكون على نمط قسم أبقراط الطبي، كما يلي:
(أقسم بكل الشبكات الإلكترونية، وبكل الوسائط الإعلامية المنبثقة عنها، وبكل البرامج التي أملكها، أو أستعيرها، أو أعرفها، وبكل أنواع الهواتف المحمولة والثابتة، أن أكون مخلصا لمشيئة الشبكات، مطيعا لما يأمرني به مالكوها ومسيروها، مفضلا إياها على أسرتي وأبنائي، وأقاربي وأصدقائي، مضحيا في سبيلها بكل ما أملك!!
وأقسم أن أشتريها، حتى وإن استدنتُ ثمنها، وأن أفضلها على شراء الطعام والشراب، وأن أفضلها على حاجات أسرتي، وأن أجعل وقتي معها أطول من وقتي في العمل، أو متابعة شؤون أسرتي، وأن أبرأ كل البراءة ممن يشككون فيها، أو مَن يوجهونها نحو الثقافة والوعي، وأن أبذل دمي ومالي في سبيل سيادتها... وأنتم على ما أقول شهداء)!!
وفي المستقبل القريب، ستتفكك الجيوش التقليدية، ويغدو السلاح الجديد، سلاح الهجومات الفايروسية، على المواقع الإلكترونية هو السلاح النووي لجمهورية الإعلام الشعبية الجماهيرية الكبرى!!