هل السياسة عالم يقتصر على الرجل؟ نعم ولا، نعم يقتصر على الرجل لأنه هو من وضع قوانينه ونظم فعالياته، وجدول مصالحه ومصالح غيره وفق منظومة إنتخابات وأحزاب وتيارات وربما ثورات وإنقلابات. هو عالم الرجل لأنه يخضع لكل مفاهيم الصراع والتنافس وتضارب المصالح أو تآلفها لديه ولدى من يُمثل أو لدى من يريد أن يستقطبه ليُمثله. هو عالم الرجل لأنه جعل من السياسة عالم بلا مشاعر بل وربما بلا انسانية وبرر لنفسه كل الوسائل بدايةً لأنه رجل ونهايةً لأن الغاية تبرر الوسيلة. هو عالم الرجل لأنه يسمح لنفسه بالأخطاء وأن يتابع من جديد حتى ولو رفضته الجماهير، فالمجال الوحيد الذي لا يشعر به الرجل بالإحراج أو الخجل هو المجال السياسي لأن الرجل روج وأسس لثقافة أنه في السياسة لا يوجد ما هو محرج أو مُخجل وأن الأشياء غير المسموح بها خارج السياسة مسموح بها في السياسة.
هو عالم الرجل لأنه إنعكاس حقيقي وواقعي لرغبة الرجل لفرض سلطته، بل هو عالم رجولي بكل معني الكلمة حيث يمارس الرجل سلطته المطلقة حتى ولو كان في مواضع أخرى في حياته ضعيف ومنسحب؛ ولكنه في السياسة يكشر عن أنيابه ويزأر لأنه قرر ونفذ بأن تكون السياسة حلبة صراعه الأولى وبإمتياز هناك حيث فرضُ القرار قريب جداً لفرض السلطة الرجولية.
ولكن عالم السياسة قد يقتصر على الرجل ولكنه لا يخص الرجل، لأننا حين نحلل السياسة بعيداً عن النظريات والإيدلوجيات، نجد أنها عالم الحياة، بل هي أهم علوم الحياة، لأنها تمس الرجل والمرأة والطفل ثم تنتقل لشرائح أوسع كالأسرة والمؤسسات وتتدرج لتنتقل للحكومة والوزارت ثم تصل لقمة الهرم لتمس الدولة بعلاقاتها مع الدول الأخرى. لذلك كان مقياس نجاح دولة ما في تسيير شؤونها وشؤون أفرادها ومجتمعها هو المقياس الحقيقي لنجاح هذه الدولة؛ ولهذا أيضاً تلجأ بعض الدول حين تفشل داخلياً سواء على صعيد الفرد أو الأسرة أو المجتمع ككل، تلجأ لمخرج أخير وهو النجاحات الخارجية، عبر الحروب أو إيجاد مكانة دولية ما سواء دبلوماسياً أو إقتصادياً؛ ولكن مهما بلغ نجاح دولة ما خارجياً تبقى العيون ترصد نجاحها الداخلي لأنه المقياس الحقيقي لجدارتها السياسية.
عالم السياسة إقتصر على الرجل بإرادة منه وكذلك لظروف صعبة تتطلب وجود رجل بموقع القيادة؛ ولكن العالم المعاصر فرض حضور المرأة، فهل حضورها كان بفعالية حضور الرجل؟ هل نجحت المرأة في الغرب أكثر من المرأة العربية في مجال السياسية؟ ؟
لا يزال حضور المرأة العربية في مجال السياسة حضور ضعف على الصعيد العملي وليس على صعيد عدد هذا الحضور، فلم يعد صعباً على المرأة أن تتقلد مركز سياسي ما، ولكن الصعب هو أن تُثبت جدراة تنافس جدارة الرجل وخبرته وهو أمر ليس سهلاً، رغم تساوي الطرفين في المؤهلات العلمية؛ وربما يكمن السبب بأن المرأة لا تزال تنطلق في إدارتها لأغلب الأمور من كونها امرأة فتتحفظ أو تتراجع ولا تمتلك الجرأة بعد ليكون لها بصمة خاصة بها مثلما يكون لبعض الرجال بصمة خاصة قد لا تُنسى على مدرا الأيام؛ لأن السياسة لها وجهان، الأول وجه لإدارة الأمور ووهو ما يمكن أن يُتقنه أي شخص سياسي سواء رجل أو امرأة؛ والوجة الآخر هو قيادة الأمور وهو ما لا يتقنه سوى فئة نادرة من الرجال وأكثر ندرة من النساء، لأن هذه القيادة تتطلب الحكمة والمعرفة وقوة الشخصية دون تسلط، والقدرة على إتخاذ قرارت غير تقليدية، والقدرة على إستقراء المستقبل وإستشعار حاجة المجتمع لشيء لم يُطلب بعد ولكن قد يُطلب لاحقاً؛ إنه بإختصار أن يكون السياسي ليس رجل صاحب منصب رفيع بل رجل صاحب فكر رفيع وشعور مرهف لما يدور في أروقة الحكم وكذلك لما يدور في الشارع وألا ينفصل الشارع بالنسبة له عن أروقة الحكم، أن يكون مع الجميع وليس مع ذاته بالشراكة مع فئات محددة.
لا تزال المرأة العربية تفتقد لروح القيادة، فهي حتى في موقعها السياسي لا تزال تجنح للتطبيق الحرفي للقانون وتتردد بالمبادرة بتغيير القانون، تتواصل مع الجمهور عبر منظومة تقليدية رسمها الرجل وتسير وفق خطواته ولا تمتلك بعد أدوات إبداعية تتناسب مع روحها الخلاقة وشعورها القريب لجميع فئات المجتمع؛ لم تستثمر المرأة العربية بعض طاقاتها الكامنة كامرأة وتحاول تقليد الرجل بجميع الأمور مما يُفقدها خصوصيتها؛ حتى أنها لم تطور إيدلوجية نسائية سياسية، ليس بمفهوم التعصب لكونها امرأة، ولكن بمفهوم إيجاد نمط سياسي حديث ومرن يتطابق مع شخصيتها ويكون أكثر قرباً للجمهور.
لقد أسست المرأة الغربية لإيدلوجية سياسية نسائية خاصة بها، ولكنها إيدلوجيه خاصة بالنساء على وجه الخصوص لم تتوجه من خلالها للجمهور بشكل عام، لا تزال المرأة حتى في الغرب تقتفي آثار الرجل وتسير وفق منهجه السياسي بل وتنظم برنامجها الإنتخابي بما يُشبه برنامج الرجل، بل قد تكون قيادتها للأمور أكثر شراسة من الرجل؛ وتتنافس من منطلق أحادثيات الإنتخابات لا من منطلق إيدلوجية حديثة تبتدعها بأفكارها الخاصة وبرؤيتها المتفردة للأمور؛ فتبدو السياسة النسائية سواء في الشرق أو الغرب تكرار لسياسة الرجل وهو ما يُضعف إقبال الجمهور على إنتخاب المرأة، لأنه يرى أنها تكرر ما يقوم به الرجل، بل يجد أنه من الأفضل له بهذه الحالة إنتخاب الرجل لأن الرجل على الأقل يمتلك أدوات أكثر وسلطة أعلى من المرأة.
يمكن للمرأة أن تُبدع بالسياسة بحالة واحدة وهي ألا تكون صورة نسائية لسياسة الرجل المرسومة منذ سنوات وسنوات وإلا فما الذي سيُميزها عن الرجل، منذ سنواتٍ طويلة فشل الرجل السياسي بإبداع نظام سياسي متفرد مرن ذكي وجريء يجذب إليه كل فئات المجتمع، بل يكاد الوسط السياسي من أكثر الأوساط رتابةً وتكرراً حتى أن الناخب يكاد لا يجد رغبة بأن يذهب لإنتخاب شخص ما سواء رجل أو امرأة.
وهذه السياسة الباهتة والمكررة تمنح الأمل والدافع الأكبر للمرأة أن تفكر بطريقة مختلفة، وأن تؤسس لأدوات إنتخابية وأهداف إقتصادية وإجتماعية تختلف عن أدوات الرجل التي نحفظها جميعاً ظهراً عن قلب. في عالمنا المعاصر، المتغير، المتبدل، لا يمكن للسياسة أن تنجح وأن تتألق دون أن تواكب هذا التغيير المتسارع، وأن يكون الإبداع عنصر اساسي بها مثلما أصبح الإبداع عنصر أساسي في مجالات كثيرة ؛ فالإبداع لا يقتصر على عالم الفن والأدب بل له صلة وثيقة بالعلم والإقتصاد والإجتماع؛ فكيف لنا أن نعترف بالإبداع بكل هذه المجالات ثم تقف السياسة جامدة متحجرة أمام مجتمعات تنبض بالرغبة بالتغيير ليس الرغبة فقط بل إنطلقت نحو تغيرات لا تطلب الإذن منا بقبولها أو برفضها. في عالمنا المعاصر لابد وإلا إتسعت الفجوة بين ما يعيشه الناس وبين ما يقوم به رجل السياسة. حين يصل المواطن لقناعة بأن السياسة لا تجدي نفعاً، تتولد في الشارع سياسة أخرى صامتة وهي سياسة اللامبالاة تجاه الدولة والإنفصال النفسي والفكري عنها وما ينتج عن ذلك من ضعف في الإنتاج وضعف في المبادرة والإنسحاب إلى أهداف فردية لا تجد في المصلحة العامة هدفاً جذاباً ولا بناءاً. وعليه ولكي يكون للمرأة موقع سياسي حقيقي عليها أن تبدأ بسياسة أخرى مختلفة وبفكر آخر متجدد وجريء مبني على رؤيتها الانسانية الخاصة للأمور وليس على رؤية الرجل؛ بهذه الحالة يمكنها إثراء تجربة الرجل بأن تُضيف عناصر أخرى عوضاً أن تكرس وتجذر سياسته المكررة منذ عقود وأن تعتبر نفسها نجحت سياسياً؛ يمكنها أن تنجح سياسياً ولكنها لن تترك بصمة قيادية ولا فكرية وينتهي دورها بمجرد إنتهاء مدة عملها في السياسة؛ والمشكلة أن السياسة ليست مهنة بل نهج فكري عميق ودقيق يترك آثاره على الفرد والمجتمع سواء بالتطور أو التراجع؛ فإن تعامل السياسي سواء امرأة أو رجل مع السياسة على أساس كونها مهنة فمن الصعب حقاً أن نشهد تطور حقيقي للمجتمع أو نهوض إقتصادي يستمر لسنوات. فلو كانت السياسة مهنة لما دخلت اسماء معروفة لنا جميعاً بوابة التاريخ ولا نزال نذكر مواقفها العظيمة، ذلك لأن تلك الشخصيات العظيمة لم تمتهن السياسة بل عاشت لأجل السياسة ولأجل أهداف لم تتراجع عن تنفيذها مهما كان الثمن؛ بل وقدمت أكثر مرات ومرات مما أخذت لأنها عاشت لأجل خطة وهدف ثم نتيجة، ولم تعش لأجل غاية ومصلحة وحباً بالظهور.