في العصر الحديث اشتغل كثيرون في نقد المستشرقين، وتتبع أخطائهم، وردّ اتهاماتهم للإسلام ورسوله الكريم، عليه الصلاة والسلام، وأُلّفت في هذا مؤلفات كثيرة، وجُمعت فيه مادة كبيرة، فماذا سيصنع هؤلاء حين يقع بعض الغربيين الآن على هذين المتنين "لا عدوى ولا طيرة، وإنما الشؤم في ثلاثة: المرأة، والفرس، والدار" و "الشؤم في الدار، والمرأة، والفرس"، هل سيقفون في صفّ الإسلام، ورسوله الكريم، أو في صف راوٍ يُخطئ في روايته، ويسهو في نقله؟ هل سيكونون مثل ابن عبدالبر حين قال: "فقوله عليه السلام: "لا طيرة" نفي التشاؤم والتطير بشيء من الأشياء، وهذا القول أشبه بأصول شريعته، صلى الله عليه وسلم، من حديث الشؤم" (التمهيد 9/ 284) أو سيركنون إلى هذين المتنين وينسون الشريعة كلها؛
يُضحون بالكلي في سبيل الانتصار لراو نقل عن راو في سلسلة طويلة من السند، ما كان لها أن تكون لولا بُعد العهد بين المروي عنه، عليه السلام، وبين من روى ودوّن؟
من يقرأ هذين المتنين، وما يُشبههما في الشؤم، لن يذهب بعيدا في تفكيره، ولن يبحث عمن يُفسرهما له؛ فمعناهما مباشران، ودلالتهما واضحة للعيان، وما على من يروم تشويه الإسلام، وتشويه رسوله، وترويج هذا عنهما؛ إلا أن يقول: لقد صحّ عن رسول الإسلام؛ أنه يعد المرأة والفرس والدار من جالبات الشؤم! وسيجد أنصارا له من المحدثين والعلماء الذين يُثبتون هذا المتن، ويُجادلون في حمل معناه على ظاهره، وأنّ رسول الله قاله بلا شك عندهم فيه، ولا ريبة في نقله.
يُحاول بعض الشراح أن يحمل هذا المتن على إرادة بعض الجنس، لا كله، فيصبح المراد بعض النساء، وبعض الدور، وبعض الخيول، يقول هؤلاء حسبما ورد عند النووي: "شؤم الدار ضيقها، وسوء جيرانها وأذاهم، وشؤم المرأة عدم ولادتها، وسلاطة لسانها، وتعرضها للريب، وشؤم الفرس أن لا يُغزى عليها..." (صحيح مسلم بشرح النووي 14/ 221و222) وهو حمل بعيد ضعيف؛ لأن المتن الأول بأداة الحصر، ولا معنى لحصر الشؤم في بعض الجنس، ولأن هذا الحمل خروج بالألفاظ عمّا وُضعت له في اللغة، والنبي عليه الصلاة والسلام أفصح الخلق، ولو شاء لقال: بعض...، ولم يُحوِج هؤلاء إلى مثل هذه التخريجات البعيدة المتكلّفة؛ خاصة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز عليه، ولأن كل شيء، وليس هذه الثلاثة فحسب، سيكون فيه شؤم؛ فالرجل العقيم مثلا شؤم على المرأة، فلا معنى لتخصيص المرأة بذلك، ثم كيف تُوصف المرأة بالشؤم؛ لأنها عقيم، وما العقم إلا قدر من أقدار الله تعالى، يُنتظر منها، ومن زوجها، الصبر عليه، أيكون الشؤم من أقدار الله تعالى المكتوبة في الأزل على الإنسان، أتكون مثلا أمهات المؤمنين اللاتي لم يُنجبن مشؤومات، وكان الأحرى برسول الهدى أن يُطلقهن، ويستبدل بهن غيرهن؟!
أحيانا كثيرة تكون التفسيرات، ومحاولة المحاماة عن المتن بها، أشد غرابة، وأعظم عجبا؛ كتفسير شؤم المرأة بعقمها، وشؤم الدار بضيقها، وكأنّ العقم لا يكون شؤما إلا إذا اتّصفت به المرأة، وكأن ضيق الدار لا دخل له بصاحبها وكسبه، وكأن هذا المفسر يُريد أن يُحمّل غير القادر، وغير الغني، ما لا يستطيعه في بناء داره، وإقامة مسكنه، وينسب هذا وذاك من تفسيره إلى دين الله تعالى وقول رسوله عليه الصلاة والسلام.
ومما يحسن ذكره حين النظر في متن "لا عدوى ولا طيرة، وإنما الشؤم في ثلاثة..."، ويُتّخذ سببا وجيها في الشك به، والارتياب من روايته، ما هو مقرر عند علماء العربية، قديما وحديثا، من أنّ "لا" النافية للجنس تنفي العموم، ويذهب معناها إلى خلوص النفي، يقول أبو حيان في هذا المعنى: "وقوله: "وقُصد خُلوص النفي؛ لأنه إذا لم يُقصد خلوص العموم لم تعمل عمل (إنّ)، بل تعمل عمل (ليس)، أو يُرفع ما بعدها بالابتداء، فتحتمل إذ ذاك نفي العموم، ونفي الوحدة، ونفي وصف الرُّجلْة والنجدة، فإذا قلت: لا رجلَ، كان المعنى النفي العام، أي: لا رجل من هذا الجنس، ولا أكثر ولا قويَّ ولا ضعيف" (التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل 5/ 224) فبناء على هذه القاعدة المقررة، والمجمع عليها بين علماء العربية، لا يُمكن أن تُقبل هذه الرواية التي تجمع بين (لا) النافية للجنس في "لا عدوى ولا طيرة"، وبين إثبات الشؤم في تلك الثلاثة؛ لأن معنى هذا أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، لم يكن أفصح العرب، ولم يكن يُتقن لسان قومه الذي حكى النحويون قوانينه، ووافقهم غيرهم عليها، من المفسرين والبلاغيين، وهذا معنى تنبّه له ابن عبدالبر في تمهيده، وإن لم يُعطه حقه، حيث قال: "لو كان كما ظننت؛ لكان هذا الحديث ينفي بعضه بعضا؛ لأن قوله: "لا طيرة" نفي لها، وقوله: "والطيرة على من تطيّر" إيجاب لها، ومحال أن يُظن بالنبي، صلى الله عليه وسلم، مثل هذا من النفي والإثبات في شيء واحد، ووقت واحد" (9/ 284)، ومن يقبل هذا المتن، ويدافع عنه؛ فلْيدلني على نحوي واحد، قديما كان أم حديثا، يقبل من امرئ، ويُصحح له أن يقول: لا ريالَ معي، وإنما عشرة ريالات! فإن لم يستطع أحد أن يجد من ينصره من النحويين في هذه القضية اللغوية؛ فكيف يُنسب إلى أفصح العرب من الكلام، ما لا يُقبل من عامة الناس؟
لم يفطن النووي حين حديثه عن هذا المتن إلى التنافي القارّ في متنه، وهو الشارح لصحيح مسلم، ومسلم هو الراوي لهذا المتن "لا عدوى ولا طيرةَ، وإنما الشؤم..."، وإنما ذهب يذكر خلاف العلماء فيه، وينقل أفهامهم له، ثم ختم حديثه قائلا: "واعترض بعض الملاحدة بحديث "لا طيرة" على هذا؛ فأجابه ابن قتيبة وغيره بأن هذا مخصوص من حديث "لا طيرة" (14/ 222)، وكأنّ النووي بهذا يُحذر من الاعتراض على هذا المتن بمثله، ويقول للناس: إن العلماء لم يعترض منهم أحد عليه، فهم مجمعون على قبوله، ومتفقون على سلامته، وإنما يأتي الاعتراض من الملحدين وأشباههم، فإياك أن تكون منهم، أو تسلك طريقتهم؛ لكنه لو اطّلع على موقف أم المؤمنين عائشة، وموقف ابن عباس، من هذا المتن، وقرأ ما سأنقله للقارئ في المقال القادم، إن شاء الله، لما قال كلامه هذا، ولما صوّر لقارئ كتابه أن هذا المتن لم يعترضه إلا ملحد مشاق لله تعالى ورسوله.