ظل حلم زيارة تونس يطاردني منذ 3 سنوات بعد ما التقيت بفنان تونسي خلال زيارتي الاولي لفرنسا، وكان واحداً من أهم أسباب عشقي لهذه الدولة، وعلي مدار 3 سنوات التقيت أخرون من تونس خلال دورات تدريبية مختلفة، وتأكدت أنها البلد الخضراء ليس لطبيعتها الخلابة فقط وإنما لقلوب مواطنيها العامرة بالصدق والعفوية، فكان التونسيون دائماً هم الأقرب لي في أي لقاء عربي يجمع شباب من مختلف الدول العربية.
حظيت أخيراً بزيارة "الشقيقة الخضراء" ومازالت علي أراضيها، أنعم بمحبة واستقبال أصدقائي التونسيين، بعد أن انتهيت من أيام عملي، استقبلتني صديقة في منزلها لقضاء أسبوع أخر أري فيه تونس بعيون أخري أكثر عمقاً، فكانت مدينة نابل الساحلية الشهيرة بـ "مدينة الفخار" حيث تسكن أسرتها أولي رحلاتي خارج العاصمة، وقضائي يوم برفقة عائلة تونسية دللوني كأميرة مصرية بحميمية أسرية.
في نهاية اليوم تحصلت علي هدايا من والدة صديقتي شملت طبقين من الفخار المصنوع في نابل، وزجاجة ماء الزهر المقطرة منزلياً، و"برطمان هريسة" وهي الشطة المدهوسة بزيت الزيتون وتشتهر بها تونس، ولكن أجمل ما حصلت عليه هو أسرة أخري لي نحتاج أحياناً بعض الوقت لتفسير ما نرغب في قوله نظراً لاختلاف اللهجة، وتهزنا الضحكات "برشا" عندما نُسئ بعفوية فهم بعض الكلمات، فنعيد ترديدها مرات ومرات بالسخرية والبهجة ذاتها.
الست تمسح رجليها وتدخل
المرأة في تونس كيان خاص لا يمكن المساس به، اثناء تجولي مع صديق تونسي بالسيارة عبرت فتاة الشارع ولكنها قررت التوقف فجأة للبحث عن شئ في حقيبتها أمام السيارة، ولم يبادرها صديقي بـ "كلاكس" حتى لا يزعجها بل تركها تنتهي من عملية البحث واخرجت نظارتها الشمسية وأكملت طريقها، وتابعنا نحن سيرنا بالسيارة، وأنا مشدوهة تماماً بتلقائية الموقف، فلم يُعلق صديقي إطلاقاً ولم يسبها ويلعنها، وهي لم تشعر بالقلق لحظة واحدة في انها قد تتعرض للإهانة جراء وقفتها في منتصف الطريق هكذا، وحدي أنا رغبت في التعليق والتساؤل، "انتوا بتعملوا ايه !!".
عندما سألت صديقي ضحك بشدة وقال لي أنه لا يجرؤ أن يقاطعها، "بلعت لساني" وقررت ألا يثير فضولي ما يحدث حولي خاصة في ما يخص حياة النساء، حتى تبادلنا الحديث عن الزواج في تونس ونظيره في مصر، وبالرغم من إيمان المرأة التونسية بالمساواة التي يكفلها القانون، إلا أن الزواج له قوانين أخري.
عندما تقرر التونسية الزواج فأنها "تمسح سيقانها وتدخل" بمعني انها تخرج من منزل أسرتها خاوية الوفاض فتنفض الغبار من علي قدميها وتمسحهما بالأرض وتدخل عتبة منزلها الجديد المؤسس بالكامل حتى ملابسها الخاصة التي اعطاها عريسها ثمنها مسبقاً قبل العرس، ودون أن تتكبد أسرتها عناء المشاركة في ما عدا زيها التقليدي الذي ترتديه في الزفاف وبعض الديكورات المنزلية.
بالرغم من تغيير نظرة التونسيين للأعراف قليلاً وسعي بعض الأسر لاقتسام تكاليف الزفاف سوياً، إلا أن المتعارف عليه هو مسئولية الرجل بالكامل عن الزواج، ولا تعترض غالبية النساء علي هذه القاعدة، إلا أنهم مؤخراً أدركوا صعوبة إلقاء الحمل علي الرجل وحده في منظومة الزواج في ظل هذه الظروف والمتغيرات ويسعون لتعديل أعرافهم وتقاليدهم لتناسب الظروف الحالية.
التحرش صورة مصر
لا يخشي التونسيين الإفصاح عن مشاكلهم والاعتراف بنواقص المجتمع والنظام والقوانين، بل والحديث علي أن تونس ليست كلها العاصمة والمدن الشهيرة التي يسمع عنها ويراها الغرباء، وإنما يغمر مساحة كبيرة من المدن التونسية الفقر والجهل خاصة في المناطق الريفية التي لا تحظي بعناية المسئولين وتعاني التهميش وهي التي بحاجة لثورة تنتشلها من بؤسها وتجعلها بقعة منسجمة مع مدن الشمال التونسي.
عادة ما يكون الحديث بين مصري وتونسي ملئ بالدهشة خاصة إذا ما تعلق بقوانين الحريات وحقوق الأقليات والمرأة، وعلي الرغم من تحقق المرأة التونسية وتقلدها مناسب رفيعة في الدولة وترشحها في الانتخابات الرئاسية حيث حظيت بنسبة تصويت لا بأس بها، إلا أن التونسيات مازلن يناضلن من اجل الحفاظ علي هذه الحقوق بل وأحيانا يقلن أنهن بحاجة لضمانات ومساواة أكثر، يبهرني إصرارهن وشعورهن بالحاجة للإنصاف رغم كل ما يحظين به، ابتسم وأقول "يا مرارنا الطافح".
لم يسألني أحد عن طموحات الشباب في مصر ومستقبل الثورة والسياسة والفقر والبرلمان، بل كان سؤالهم عن التحرش والختان، أينعم كان هذا هو محور حديثنا تقريباً كل يوم، خاصة وأن الداعية الاسلامي المصري وجدي غنيم قد زار تونس في 2102 بدعوة من "جمعية الإيثار والدعوة الإسلامية" وألقي محاضرة في "قبة المنزه" حضرها الآلاف داخل القبة وآخرون في سياراتهم بالخارج من خلال مكبرات صوت تم تعليقها في الشوارع، وكان موضوع الخطبة لتنجح تونس في ثورتها عليها بـ "ختان الإناث" فأثار نفور وتقزز التونسيين.
وإذا ما خرجنا للتجول وبادرني مجهول في الشارع "عسلامة" فأنظر له بريبة، يضحك أصدقائي التونسيين ويرددون علي مسامعي "ده مش بيتحرش"، ويطالبوني برد السلام لأنه من الأدب والطبيعي أن نتبادل التحية في الشوارع أحيانا مع مجهولين، وخاصة إذا ما رأيت عامل كادح فألقي عليه "يعينك الله".
تسألني النساء عن نوعية الكلام التي تتعرض لها النساء من قبل المتحرشين فجعلت مصر الأولي علي العالم في التحرش، انتهز الفرصة لأصدمهن قليلاً في ما تكابده النساء في مصر ويناضلن من اجله كل يوم وهو أبسط الحقوق "شارع أمن" وليس الترشح للرئاسة التي استطعن التونسيات تحقيقه، وأخبرهن أن التحرش في مصر ليس لفظي فقط وإنما باللمس ويصل أحيانا لحد الانتهاك او الاغتصاب كما حدث في التحرير، اتركهن لقشعريرة الجسد و"الرطن" التونسي المُخلط بالفرنسي، بينما أضحك مثلما يضحك "دراكولا" بقهقهة عالية "دول غلابة أوي يا خال" هكذا أواسي نفسي.
بعيداً عن أنهن لم يستوعبن فكرة أن يلمس رجل جسد أنثي في الشارع هكذا دون أي رادع، إلا أنهن صُدمن أكثر في صمت النساء، وعلي الجانب الأخر كان رد فعل الأصدقاء الذكور من التونسيين أكثر عمقاً، فهم لا يفهمون المعني أو الاستفادة التي تعود علي الذكور من هذا الفعل المشين، ولا أجد أنا بطبيعة الحال إجابة سوي أننا مجتمع متدين بفطرته وتدفع النساء عادة ثمن هذا التدين الشكلي، ويسألوني عن صمت الرجال غير المتحرشين وعدم تدخلهم لوقف مثل هذه الجرائم التي لا تنتهك الأنثى فقط وإنما تنتهك نخوتهم ورجولتهم.
صمت المصريين
يبدو أن "الصمت" هو اكثر ما يدهش الأشقاء التونسيين في المصريين رغم ارتفاع نبرة الصوت المعروف عنا عند المزاح، ولكن عند البلاء تنعقد الألسنة ويبقي صمت المرأة الضحية، وصمت الرجل السلبي، ووحده المتحرش صاحب الصوت الأعلى في هذه المنظومة، هكذا يري أصدقائي هنا مصر.
أتوقع أن يتهمني بعض المواطنين الشرفاء بالإساءة لصورة مصر، ولكن لم أكن أنا من صنفت مصر من أولي الدول عالمياً في التحرش، والاعتداء علي الصحفيات الاجانب التي اعتذر لهن رؤساء بلادهن علي ما تعرضن له أثناء تأدية عملهن، ولم أشارك في نشر فيديو المرأة التي تم تعريتها بالكامل في التحرير وسألني الجميع في تونس عن حقيقة الفيديو وهل هو مفبرك أم لا، حيث عجزت قدراتهم العقلية عن تصديق حدوثه.
"ليه يا تونس مسيبتناش أبرياء" هكذا أوقعتني تونس في حيرة أن كان عندنا دائماً "الإجابة تونس" فلماذا لا نري هذه الإجابة مُفعلة في الحقيقة، وأن كانوا يدركون حقائق نواقصهم ومشكلاتهم ويتعاملون معها بنضج وصراحة ودون خجل، لماذا نصر نحن علي تزييف الحقائق ولا نواجه أنفسنا بمشاكلنا الحقيقية علي كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والدينية ربما استطعنا حلها أو حتى التعايش معها بأقل قدر من الاندهاش.