رجاء بن سلامة أستاذة جامعية تونسية ومحللة نفسانية وعضو في مجموعة من الجمعيات العلمية والمدنية على غرار جمعية “التكوين التحليلي والأبحاث الفرويدية بفرنسا” و”الجمعية الثقافية التونسية للدفاع عن اللائكية” وهي من مؤسّسي “رابطة العقلانيين العرب” وموقع “الأوان” بشعاره الشهير “من أجل ثقافة عقلانية علمانية تنويرية”. وتعد ابن سلامة اليوم، من الفاعلات في الساحة السياسية والمشهد الثقافي التونسي. وتروم “العرب” في هذا الحوار، تقديم ملامح من أفكار هذه الباحثة.
أصدرت الباحثة رجاء بن سلامة مجموعة من الكتب والدراسات التي نزعت فيها إلى تفكيك مستغلقات الثقافة العربية والمسكوت عنه في موروثنا الحضاري بأدوات معرفية رصينة وبجُرأة فكريّة جعلت من تلك الإصدارات فضاءات للجدل وإعادة طرح أسئلة الواقع ضمن سياقاتها الجديدة. ومن تلك الإصدارات، كتبُها “صمت البيان” عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة سنة 1999، و”الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاري ومسلم” المنشور بدار الجنوب بتونس 1997، و”نقد الثوابت” المنشور بدار الطليعة ورابطة العقلانيين العرب ببيروت سنة 2005، و”بنيان الفحولة” عن دار بترا بدمشق سنة 2005، و”العشق والكتابة” الذي صدر عن دار الجمل بكولونيا عام 2005، و”في نقد إنسان الجموع″ الصادر عن دار الطليعة ورابطة العقلانيين العرب ببيروت سنة 2008.
تدين مأزوم
تقول رجاء بن سلامة في كتابها “بنيان الفحولة، أبحاث في المذكر و المؤنث” إن العرب ينطبق عليهم قول الشاعر الألماني ريلكه في الحالتين: “ما كان لم يعد لهم، وما سيكون ليس لهم”، وهو ما حفزنا للتساؤل هل لعبت رؤيتهم للدين دورا في هذا الانسداد التاريخي، وعن هذا التساؤل، تجيب رجاء بن سلامة قائلة: “هذا سؤال مهمّ وصعب. صعب لأنّنا لا نعرف إن كان التّديّن المأزوم المفرط والتّديّن المتمسّك بالأحكام الفقهيّة سببا لهذه الأزمة، أم علامة مرضيّة لها. أريد أن أطرح سؤالا.
لماذا ألغت اليهوديّة تعدّد الزوجات منذ القرن الثّامن عشر، ولا يستطيع المسلمون إلى اليوم إلغاءه، بحيث تعدّ تونس الاستثناء الوحيد؟ هذا مظهر من مظاهر العطالة. وأسبابها معقّدة، لكنّني سأقف على نوع واحد منها، وهو ما يتعلّق بآليّات الدّفاع. ظهر الإسلام أوّلا في سياق سجاليّ مع الدّينين السّماويّين السّابقين، فكان لا بدّ أن يفرض نفسه باعتباره الأكمل والأنقى والأفضل والأخير. نجد في القرآن نفسه جهازا دفاعيّا متمثّلا في اعتباره محفوظا، خلافا لغيره من النّصوص المقدّسة.
بعد ذلك أنشأ الفقهاء ورجال الدّين، تدريجيّا، منظومة تفسير وفقه وأصول فقه تمنع التّأويل الحرّ، وتمنع اعتماد العقل. وفرض أهل الحديث رأيهم وسلطتهم على أهل الاعتزال الذين حاولوا فتح مجال النّظر العقليّ والحرّيّة والمسؤوليّة، واندحر الاعتزال لصالح الحنابلة، والحنابلة كانوا كسلفيّة اليوم يعتمدون على الطّبقات الشّعبيّة ويقومون بحملات كسر لأواني الخمرة ولآلات الموسيقى”.
الدودة المجنونة
ولا شكّ في أننا واجدون في توصيف ابن سلامة لما نعيشه من مظاهر الدفاع الديني وملابساتها ما يجعلنا نستحضر لها المثل القائل: ما أشبه اليوم بالبارحة، وهو ما قالت بشأنه: “في العصر الحديث، تكرّرت معركة الاعتزال وأهل الحديث على نحو ما. ظهر الفكر الإخوانيّ الذي أكّد آليّات الدّفاع القديمة وأطلق شعار “الإسلام صالح لكلّ زمان”، وأكّد على مطلب تطبيق الشريعة.
وهناك عوامل تاريخيّة سياسيّة أدّت إلى تدعّم آليّات الدّفاع هذه بدل الدّخول في مسارات تحرّر: إلغاء الخلافة، والاحتلال الإسرائيليّ، وكلّ مظاهر البؤس السياسيّ التي شهدتها المجتمعات العربيّة.
هذا ما جعل أغلب العرب مشدودين فكريّا إلى منظومة الماضي الذي يتوهّمون أنّه لا يمكن أن يمضي، ومنساقين اجتماعيّا، وفي الوقت نفسه، إلى حداثة فرضتها التّحوّلات المادّية، وفرضها خروج النّساء إلى العمل، وفرضها واقع العولمة. سبق أن شبّهت الذّات المشدودة إلى الأصل بالدّودة “المجنونة” في قلب التّفّاحة، تأكل من التفاحة وتعيش داخلها ولكنّها تصرخ ليل نهار لأنّها لا تريدها”.
وتضيف ابن سلامة قائلة: “فيما يخصّ العنف والإرهاب، فالمؤكّد بالنّسبة إليّ أنّ منظومة العقائد والأحكام والتّصوّرات الإسلاميّة قد تضمّنت عناصر أخرويّة تجعل الإنسان حيّا لكنّه على شفا الآخرة، بل تجعله يطلب الموت الأضحويّ، أو الشّهادة، وتجعله يقتل غيره في سبيل الإله. وفي هذا لا يختلف الإسلام كثيرا عن بقيّة الأديان الكتابيّة، لأنّ العنف والمقدّس متلازمان. الفارق يتمثّل في أنّ الإسلام لم يتطوّر بحيث يتمّ العدول نهائيّا عمّا تضمّنه من عناصر حربيّة تلغي الآخر. بل بالعكس، نجد اليوم مجموعات سلفيّة تعيد تفعيل هذه العناصر الآخرويّة المرتبطة بالعنف”.
الخوف من النساء
ولأن ابن سلامة متابعة للخطاب الإسلامي/ الإسلاموي بعين ناقدة وبخلفية التحليل النفسي منذ مدة طويلة، حاولنا أن نعرف منها إن كانت تميل إلى اعتبار تديّن المسلمين مرضا عقليا، وتحديدا في اتصاله بقضية المرأة، فأجابت بقولها: “ في التّحليل النّفسيّ لا توجد قطيعة بين المرضيّ وغير المرضيّ. لأنّ الإنسان في حالته العاديّة مصاب بالعصاب. بنية العصاب الوسواسيّ موجودة عند بعض المتديّنين. وهذا العصاب يقوم على الخوف من النّجاسة والعدوى، ويقوم على إنكار الرّغبة، وعلى ازدواج كبير في العلاقة بالموضوع. المرأة مرغوب فيها كثيرا، ولكنّها مكروهة في الوقت نفسه عند هؤلاء العصابيّين. وهذا ما يفسّر ربّما الخوف من النّساء والرّغبة في تحجيبهنّ وتحجيمهنّ، مع الرّغبة الشّديدة في المتعة بهنّ، ثمّ الاغتسال بعد ذلك من أدران المتعة للعودة إلى الطّهارة والنّقاوة، وهكذا.
الوسواسيّ هو بالضّبط من يقول أو يفكّر بأنّ “كلّ النّساء ساقطات إلاّ أمّي”.
العرب