غالباً ما تكون القصص متشابهة، بغض النظرعن الزمان والمكان. منها قصص الحب، الغرام والخيانة، الزواج والطلاق، النجاح والفشل. هي قصص تعود إلى أبطال حقيقيين هم كتبوها وحاكوا خيوطها بمشيئتهم وإرادتهم. هكذا هي الحياة، نتقبّلها، نتعايش معها، أو نرفضها.
لكن الصورة تتغيّر حين تكون القصص متشابهة في التمييز واللامساواة، متشابهة في ظلم الدولة لمواطنيها، سواء لقصور في الرؤية والقانون أو لأسباب ذات بعد سياسي تُعبّر عن أمراض المجتمع ومخاوفه وقلقه وضعفه.
نادرة امرأة لبنانية متزوجة من أمريكي، لكنها رغم «بريق» الجنسية الأمريكية التي هي حُلم كثيرين، سواء في لبنان أو في بقاع المعمورة، فإنها تعاني منذ عشرين سنة ولا تزال. معاناتها ببساطة أنها لا تستطيع، كغيرها من نساء بلدها، أن تمنح الجنسية لزوجها غير اللبناني ولأولادها. القانون لا يُجيز لها ذلك. فقانون الجنسية، الصادر عام 1925 عن المفوّض السامي الفرنسي الذي كان يتولى آنذاك السلطة التشريعية في دولة لبنان الكبير قبل استقلال لبنان، لا يزال معمولاً بنصوصه حتى يومنا هذا، وهو قانون يُولي «العبرة لجنسية الأب بتاريخ الولادة لا لمكان الولادة. فكما يَنقل الأب اللبناني الحياة إلى إبنه، ينقل إليه الجنسية اللبنانية. فمن يُولد من أب لبناني يثبت حكماً في الجنسية اللبنانية ويحتفظ بها، ولو فقدها والده في ما بعد، وهو قاصر»، الأمر الذي لا يُعير أي أهمية أو عبرة لجنسية الأم، سواء كانت لبنانية أو أجنبية أو حتى عديمة الجنسية. فالمشترع اللبناني اعتدّ بحق الدم من جهة الأب كأساس لثبوت الجنسية الأصلية للابن الشرعي، ولا تأثير لجنسية الوالدة الزوجة اللبنانية على جنسية الأولاد.
السؤال الذي يتكرّر باستمرار على مسامع نادرة هو: عائلتك أمريكية، فلماذا تهتمين إلى هذا الحد بمنحها الجنسية اللبنانية؟ سؤال قد يبدو طبيعياً لكثرة «الاندهاش» بالجنسية الأمريكية وأرض «العم سام». فكم مِن قصص نُسجت في المخيّلات عن «الحلم الأمريكي الكبير» و «أرض الفُرَص»، ولكن حين تخوض بالتفاصيل تكتشف أن الصورة تختلف.
فنادرة، حين تزوجت، عاشت في أمريكا. إلا أنها بعد ثماني سنوات، قررت وزوجها وأولادها أن يأتوا إلى بلدها الأم لبنان للعيش فيه. لم يخطر ببالها حجم المشاكل التي يمكن أن تواجهها عائلتها، لسبب أن زوجها وأولادها أجانب، وهي غير قادرة، كلبنانية، أن تمنحهم جنسيتها مثلما يحق للرجل اللبناني أن يفعل. شعرت على مرّ السنوات الماضية كيف أن القانون اللبناني يعاملها ومثيلاتها على إنها مواطنة من الدرجة الثانية. ليس هذا شعورها وحدها. فالقانون يُعامِل المرأة اللبنانية واقعاً على أنها مواطنة من الدرجة الثانية. إنها الحقيقة المرة.
زوجها مهندس لا يستطيع أن يعمل في مهنة الهندسة من دون أن يكون مُسجلاً على جدول النقابة. والتسجيل هو حق للبنانيين فقط، كون الهندسة من المهن الحرة المحصورة، كما الطب والمحاماة، باللبنانيين فقط. فكان عليه أن يقصد البلاد العربية للعمل هناك. حُلّت المشكلة بأقل الخسائر الممكنة. لكن المشكلة تفاقمت حين أضحى أولادها في مرحلة التخصص الجامعي. الكبير يريد أن يكون طبيباً، ولكن إن درس الطب، فمصيره العمل خارج لبنان.عليه العودة إلى «أرض الأحلام»، ما دامت أرض «أرز الربّ» لا تكثرث لنصفه اللبناني ولمواطنية أمه، ولا يُعير وزناً للدستور الذي نص على «أن اللبنانيين سواء لدى القانون ويتمتعون بالحقوق المدنية والسياسية، ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة من دون فرق بينهم. صحيح أن الدستور ينص على ذلك، ولكن ماذا يفيد في الحياة اليومية؟!
تزداد الصدمة والحسرة والمرارة لدى نادرة مع الابن الثاني الذي أراد أن يكون طياراً في شركة «طيران الشرق الأوسط» ورمزها «أرزة لبنان الشامخة»، فواجه مشكلة أنه ليس لبنانياً ولا يحق له الالتحاق بالشركة الوطنية. لكنه لن يدع «التمييز الذي يطاله» يُحبط من حلمه. فهو سيسافر لدراسة علم الطيران خارجاً، فيما أمل ألأم أن تتمكن الضغوط التي يمارسها المجتمع المدني على الطبقة السياسية والسلطة التشريعية أن تفعل فعلها، وتؤول إلى إقرار حق المرأة اللبنانية في منح الجنسية لزوجها وأولادها.
تحوّلت قضية «حق المرأة اللبنانية في منح الجنسية لزوجها وأولادها» إلى أحد العناوين التي يرفعها المجتمع المدني. وأبرز مَن يحمل هذا الهمّ هي حملة «جنسيتي حق لي ولأسرتي» التي أطلقتها «مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي» عام 2002 في لبنان وخمسة بلدان عربية أخرى، هي سوريا، مصر، الجزائر، المغرب، والبحرين، بوصفها شريكة في الحملة الإقليمية من خلال جمعياتها الأهلية. هدفت الحملة إلى المطالبة بالحق الطبيعي للنساء العربيات في ممارسة مواطنة كاملة، وإعطاء النساء حقهن بمنح جنسيتهن إلى الزوج والأولاد من خلال تعديل قوانين الجنسية في لبنان وفي البلدان الشريكة بالحملة. كما هدفت إلى التوعية حول حقوق النساء كمواطنات وإزالة كل أشكال التمييز ضدهن ورفع تحفظات الحكومات عن بنود اتفاقية «سيداو» (اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة)، إضافة إلى حشد التأييد بالنسبة لحق النساء بالجنسية على كافة الصعد.
وتقول منسّقة حملة «جنسيتي حق لي ولأسرتي» كريمة شبو إن تبنّي هذه القضية جاء انطلاقاً من عمل «مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي، وهي إحدى الجعيات الأهلية غير الحكومية، التي تركّز على التنمية والمساواة بالنوع الاجتماعي، أي بين النساء والرجال، من خلال معالجة القوانين المجحفة أوغير المساوية بين الرجل والمرأة أو تلك التي تنتقص من حق المواطنة عند المرأة أو الرجل، وأبرزها قانون الجنسية الذي هو قانون «مُجحف بامتياز وتمييزي».
كانت البداية في العام 2002 من خلال إعداد دراسة قانونية في لبنان والدول الشريكة في الحملة. الدراسة اللبنانية أعدّها المحامي زياد بارود الذي كان ناشطاً في المجتمع المدني، ودخل المعترك السياسي لآحقاُ من خلال تعيينه وزيراً للداخلية والبلديات عام 2008 في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. على ضوء تلك الدراسة، تم وضع مقترحٍ لتعديل قانون الجنسية، الذي ينصّ في مادته الأولى على إنه «يُعتبر لبنانياً مَن وُلد من أب لبناني»، ليأتي اقتراح التعديل بإضافة ثلاث كلمات فقط على المادة هي « أو أم لبنانية». ثلاث كلمات من شأنها أن تغيّر كثيراً في واقع مئات اللبنانيات المتزوجات من أجانب، ومن شأنها أن ترفع التمييز القائم بحق المرأة اللبنانية في هذا المجال.
وأظهرت دراسة إحصائية – اجتماعية أعدتها حملة «جنسيتي» مدى صعوبة إجراء إحصاء دقيق لعدد اللبنانيات المتزوجات من أجانب. الدراسة استطاعت أن تحصي، حسب الدوائر الرسمية، 840 لبنانية متزوجات من أجانب، وقد بلغت نسبة الزيجات من عرب 515 زيجة، فيما توزعت البقية بين زيجات أوروبية وأمريكية وأفريقية وآسيوية. ليست هذه النسبة دقيقة، ذلك أن هناك الكثير من اللبنانيات اللواتي تزوّجن ويعشن خارج لبنان، ولسن مشمولات بالدراسة.
ولكن ثمة مشكلة أساسية تقف وراء عدم إقرار قانون حق المرأة اللبنانية بمنح جنسيتها لزوجها وأولادها. إنها مشكلة الخوف من «تغيير ديموغرافي» في لبنان. تغيير يعود إلى الخوف من تجنيس اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان من باب الزواج من لبنانيات، وهو ما قد يؤدي إلى توطينهم، وتالياً إلى خلل في التركيبة الاجتماعية بفعل أن غالبية الفلسطينيين هم من الطائفة السنية. الخوف من طغيان طائفة على طائفة أو مذهب على مذهب حال طوال كل تلك السنين دون طيّ هذا الملف، وآل إلى دخوله غياهب النسيان. لا يخلو الأمر من مخاوف من زيجات لبنانيات من سوريين أيضاً في هذا الإطار، على الرغم من أن قانون التجنيس عام 1996 حمل أكبر نسبة تجنيس لسوريين غالبيتهم ليسوا مقيمين في لبنان، وكانت وراءه أسباب سياسية هدفت إلى تأمين كتلة ناخبة وازنة تُجيّر في الانتخابات النيابية لمصلحة حلفاء النظام السوري آنذاك في زمن الهيمنة السورية على البلاد.
وأبرزت دراسة رسمية أعدتها وزارة الداخلية عام 2012 أرقاماً وصلت إلى ما يزيد عن 80 ألف حالة زواج للبنانيات من أجانب، وهي أرقام استندت إليها لجنة وزارية شُكّلت لدراسة مشروع التعديل في عهد حكومة نجيب ميقاتي، من أجل رفض السير به، باعتبار أن الأرقام» تخل بالتوازن الديموغرافي الطائفي إخلالاً كبيراً، فضلاً عن شمولها عدداً لا يُستهان به من الفلسطينيين». وخرجت اللجنة بنتيجة قوامها ترك المسألة إلى ما بعد إلغاء النظام الطائفي على المدى البعيد.
وإذا كان ضغط المجتمع المدني في السنوات الماضية لم ينجح في إخراج هذا التعديل من براثن المزايدات السياسية والحسابات الديموغرافية، إلا أنه ساهم في تخفيف بعض المصاعب التي كانت تواجه عائلات اللبنانية المتزوجة من أجنبي لجهة الحاجة سنوياً إلى تجديد الإقامة وإلى كفيل عمل، إذ صدر مرسوم عام 2010 أجاز منح الأمن العام تلك العائلات إقامة لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، على سبيل المجاملة، من دون تكاليف مادية، وعدم الحاجة إلى كفيل. كما تمّ إدخال تعديلات عام 2012 إلى شروط العمل تُخوّل زوج وأولاد اللبنانية مزاولة المهن التي يمارسها اللبنانيون باستثناء المهن النقابية. لكنها تعديلات لا ترقى إلى مستوى إزالة الغبن والتمييز اللاحق باللبنانية المتأهلة من أجنبي.وهناك شك في أنها تطبق.
غير أن بارقة أمل لاحت في الأفق قبل أشهر عدة. بارقة الأمل جاءت هي الأخرى على خلفية الحسابات الديموغرافية و»الطوائفية» اللبنانية. علت أصوات مطالبة بإقرار قانون «استعادة الجنسية للمتحدرين من أصل لبناني»، وهي أصوات مسيحية، انطلاقاً من قناعتها بأن إقرار مثل هذا القانون سوف يُحفّز المغتربين اللبنانيين، ولا سيما المسيحيين الذين هاجروا من لبنان واستقروا في دول منحتهم جنسيتها، على استعادة الجنسية اللبنانية، ما قد يُعيد التوازن العددي المفقود في لبنان، إذ أن الإحصاءات غير الرسمية تشير إلى أن المسيحيين أضحوا يُشكّلون ما يقارب 37 في المئة من عدد السكان، على الرغم من أن الدستور اللبناني ينص على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في السلطتين التشريعية والتنفيذية وفي مراكز الفئة الأولى في الإدارة بغض النظر عن نسبة العددية لكل طائفة. وخلال مناقشة مجلس النواب، في نوفمبر 2015، مشروع قانون استعادة الجنسية، سعى بعض النواب إلى دمج مشروع قانون منح المرأة اللبنانية الجنسية لأولادها به، غير أن المحاولة لم تصل إلى نهايتها السعيدة، بل إلى منتصف الطريق عبر الحصول على توصية نيابية بالإسراع بدراسة هذا المشروع من أجل إقراره.
توصية بـ «حق المرأة اللبنانية بمنح جنسيتها لأولادها» تبقى توصية، وقد لا تُبصر النور، رغم أن رئيس المجلس نبيه بري قال يومها، فيما كانت حملة «جنسيتي حق لي ولأسرتي» ومعها مناصروها من المجتمع المدني يعتصمون خارج مبنى البرلمان «إن التوصية ضرورية لأن هناك مَن يتظاهر في الشارع»!
نادرة لا تزال تنتظر، وكذلك مريم وسميرة وغيرهن كُثر. لم ولن يعرفن اليأس، علّ عيد المرأة، في سنة مقبلة ما، يحمل معه البشرى السارة: بات بإمكان اللبنانية أن تمنح جنسيتها لزوجها وأولادها. أصبحتِ المرأة اللبنانية في زمن بات فيه للمواطنة معنى.