بمناسبة الثامن من مارس (آذار)، إذا كان لا بد من كلمة حق أن تقال في سبب الإجحاف الواقع على المرأة اللبنانية، رغم نضالاتها التاريخية، فهو النظام الطائفي الذكوري الصلد، الذي صارع الزمن بجدارة.
تمكنت اللبنانيات من أن ينتزعن حق الترشح والانتخاب، منذ خمسينات القرن الماضي متقدمات على شقيقاتهن العربيات جميعًا. وجاءت الحرب الأهلية اللعينة فتأخرن وسبقتهن المغربيات والتونسيات، وبقين خارج مواقع السلطة، إلا محظوظات جاء بهن إلى السياسة، أزواجهن أو أشقاؤهن، بحكم الإرث الذي لا يخرج عن دائرة القبلية، أو بداعي تلطيف الأجواء الرجولية بنفحة أنثوية، وهذه بحد ذاتها نقيصة.
وازداد عدد الخريجات الجامعيات وبات يساوي عدد الخريجين، وفي اختصاصات علمية، فاق عددهن زملاءهن الشبان، غير أن المرأة، رغم ما أثبتته من كفاءة، بقيت، مهنيًا، في أدنى السلم الوظيفي أو علقت في وسطه، وقليلاً ما سمح لها بالترقي، بالسرعة التي يتسلقها الرجل، إلا حين سبقته في «الاستزلام». وهي مفردة بالمعنى السياسي في لبنان، لا صلة لها بـ«الاسترجال» وقد تحمل معنى معاكسًا، بعيدًا عن العضلات المفتولة أو المواقف المبدئية، لتصبح قرينة الانتهازية، ومداهنة الزعيم وتحول المرء إلى تابع وإمعة، يهزّ الرأس إيجابًا، مهما كان امتعاضه كبيرًا.
قليلات هن النساء، اللواتي نلن مبتغاهن، إذن، وغالبية تصارع من أجل الوصول، ولعلهن سيدركن، بعد حين، أن الخروج عن السرب ليس في مصلحتهن، فيعاودن الانضواء تحت جناح «التزلّم» الرخيص. المناخات الأكاديمية وحتى القضائية التي يفترض أنها من بين الأكثر نزاهة لا تختلف في شيء، عن الإدارات الخدماتية. أكثر من 40 مؤسسة تعليمية جامعية في لبنان، اثنتان فقط تترأسهما نساء. ولا تشكل الأكاديميات اللواتي يبلغن أوج السلم الوظيفي سوى 23 في المائة مقابل وجودهن بنسبة 61 في المائة في الدرجات الأقل شأنًا ومسؤولية. هكذا حتى حملة شهادة الدكتوراه يخفقن في أن يتساوين، مع زملائهن، لا لقصور في المعرفة أو الكدح، بل لأن الحسابات تكون طائفية مرة، وحزبية مرات، ولم تتمرس النساء بعد بالقدر الكافي، في إجادة لعبة تبادل المصالح وتسديد الفواتير النفعية.
الوضع أدهى في الصحافة، إذ من بين 111 مطبوعة لا تملك النساء سوى اثنتين. وفي التلفزيونات والإذاعات، حيث يصل عدد العاملات من الجنس اللطيف إلى النصف، أحيانًا، تبقى الإدارة للذكور، أما الملكية الفعلية فلرئيس العشيرة.
لا غرابة، إذن في إعلام يموله رجال ويديرونه تبعًا لرؤاهم، أن تقدم النساء جميلات مغناجات، مدللات، أثمن ما فيهن خواؤهن، وكأنما سيدات لبنان لسن في غالبيتهن، قرويات، فقيرات، وبينهن مناضلات ومعنفات، ومن تزوجن قاصرات. عشرات المقالات كتبت عن حسناوات لبنانيات، تزوجن بمشاهير ورؤساء دول، فيما بقيت جرائم قتل النساء، على أيدي أزواجهن، وبشكل متكرر ومخزٍ، مجرد أخبار محلية، لا تعني غير العائلة الصغيرة المفجوعة، وجمعيات الدفاع عن حقوق المرأة.
الترويج لنمط واحد من النساء، خرجن من تحت مبضع الجراح، متشابهات حتى الإضجار، أمر استساغته المرأة وتواطأت معه، وراق لوسائل الإعلام بيعه لحظة أصبح المال هدفًا، والاتجار بالبشر مهنة.
أول ضحايا تهاوي الاقتصاد هنّ النساء، الحلقة الأضعف والأكثر هشاشة. عندما كتبت ليلى بعلبكي روايتها الشهيرة «أنا أحيا» في ستينات القرن الماضي، وجاءت غادة السمان إلى بيروت تبحث عن حريتها السليبة، كان التحدي أعمق من حرية الفساتين القصيرة والشفاه المنتفخة. عرفت نساء ذاك الزمان أن خلاصهن الحقيقي هو في استقلالهن المالي، ونضجهن الفكري. وبعد المقاومة الشديدة التي أثبتها النظام الطائفي بعصبياته ومفاسده، رغم الحروب والمجازر، وما استجره، من فقر وخراب في النفوس، ظنت بعضهن، أن العودة إلى كنف الرجل ماليًا، ليست بالفكرة السيئة. وكأنما بمقدورك أن تصرف من جيب غيرك، وتملك زمام ذاتك. «من يملك المال، يملك القرار». رغم كثرة الخريجات، أكثر من ثلاثة أرباع اللبنانيات لا يشاركن في الإنتاج الاقتصادي. الجامعيات، يتخلين طوعًا، عن حقهن في العمل، إما لميل في الاتكاء على الرجل أو لتقاعس أمام صعوبة إيجاد عمل. وكأنما ما ينفق على الفتيات، يذهب هباء، تخسره العائلات دون أن يربحه الوطن.
لا يزال الرجل اللبناني، هو المعيل، إذن، رغم كل مظاهر البهرجة، وصور الفاتنات التي تملأ المجلات العربية وتحتل الشاشات. ثمة حرية اجتماعية في لبنان، لا مثيل لها في أي دولة عربية، تغبط عليها المرأة، لكنها لا تترجم إنتاجًا، وإصرارًا أنثويًا جماعيًا على مناهضة الذهنية العصبية، القائمة أصلاً على تمييز يبدأ دينيًا ومذهبيًا، ولا ينتهي إلا بإحالة المجتمع بأسره إلى فتات.
التحديات في وجه المناضلات المخلصات، تشبه جبالاً صخرية ينحتن لتفتيتها بمعاول يدوية صغيرة، لكن المثابرة تأتي بثمر، لا يني يكبر وينضج. شجاعة النساء العاديات اللواتي يخرجن إلى أعمالهن الصغيرة لإعالة أسرة بلا رجل. الطالبات المثابرات اللواتي يكدحن من أجل تأمين أقساطهن الدراسية لضيق ذات اليد. الأمهات اللواتي لا يعرفن طريقًا إلى زعيم، ويتحملن غربة فلذات أكبادهن، في سبيل تأمين حياة أفضل. المرأة اللبنانية ليست مجرد دلوعة على شاشة. إنها ذاك النصف من المجتمع الذي يدفع ثمن العصبيات المذهبية، باهظًا جدًا، ودون أن يعلم.
أيتها المرأة كوني جميلة واحكي...