لم تبدو المسألة لمواليد التسعينات بهذا التعقيد، إذ لم تطرح عليّا سابقا مشاغل حقوق المرأة، كنت في أحضان مكتسبات انتقلت لي من الجيل الذي سبق.
فلا يوجد أيّ شخص من أقاربي تزوّج أكثر من امرأة واحدة ولا احدى معارفي تطلّقت دون الاجراءات القانونية الضامنة لحقوقها هي و طليقها على حد السواء عبر محكمة تتوفّر فيها شروط الانصاف المادية و المعنوية.
لم تبدو مسألة التجنيس أيضا مطروحة ، فسواء تزوجت تونسيا أو أجنبيا ، سيحفظ القانون التونسي صيغة انتماء أبنائي لتراب هذه الأرض التي بنتها ،و ليس مجازا، سواعد نسائيّة منذ بداية التاريخ : من عليسه مؤسسة قرطاج كما تذكر الاسطورة وصولا إلى الكاهنة البربرية حاكمة شمال افريقيا ،التي قادت معارك عسكرية أسالت حبر كل المؤرخين ، انتهاء بجدتي التي لم تتوارى عن تخبئة و إطعام المقاومين المسلحين ضد الاستعمار الفرنسي.
و لكن شيء ما حدث جعلنا نشعر بالتهديد و نستقرأ جيّدا من حولنا , رجّة أخرجتنا من داموس تضّخم فخرنا و التبجّج بمجلة الأحوال الشخصيّة (و هي المجلّة المختصّة بحماية حقوق المرأة بتونس) إلى حالة دفاعية عن هذا الموروث.
فبعد الثورة التي حررّت الألسن، أصبحت المرأة محلّ نقاش في ملبسها و عملها و حقوقها و عرفت أن هذا التطاول عليها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار لم يكن سوى تمثّلا لكونها الحلقة الأضعف قانونيا على عكس ما كان في ذهنيّتي أوّلا و ما يراج لدى الجميع في داخل الوطن و خارجه ثانيا. قد تهتزّ فرائص بعضهنّ للفظ الأضعف، و لكن الحقيقة تثبت أن حقوقها لا تظاهي حقوق الرجل سواء في الأسرة أو الحياة العامّة.
حملتني هذه الرجّة و كثيرات غيري إلى أكثر يقظة و تنبّه لما يخطّ و يطبخ لبنات جنسي في هذا الدستور و في المعاملات اليومية التي تبقى دون المنشود و لا تنصف تونس و نضالات بناتها إلى أن وقع الحسم و انتهى هذا الأسبوع بالمصادقة على الفصل 45 بعد طول جدال أوضح جليّا كيف يمكن لبعض النساء أن تعادين نفسهنّ و تقمعن رغبتهنّ في معانقة الانسانيّة ، وكان نصّه كالآتي:
تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة المرأة و تدعم مكاسبها و تعمل على تطويرها."
تضمن الدّولة تكافؤ الفرص بين الرّجل والمرأة في تحمّل مختلف المسؤوليّات و في جميع المجالات.
تسعى الدّولة إلى تحقيق التّناصف بين المرأة و الرّجل في المجالس المنتخبة.
تتّخذ الدّولة التّدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضدّ المرأة."
دعونا قبل أن نتسائل عن آليات ضمان الدولة لتكافؤ الفرص بين المرأة و الرجل و عن مختلف التدابير الوقائية للقضاء على العنف ضد المرأة و تحديد درجة الالتزام بتحقيق التناصف في مصطلح "السّعي" و تحديد المجال في "المجالس المنتخبة" بغض النّظر عن أنّ التناصف قد لا يتحقّق في الحكومة أو التعيينات الجادّة في مفاصل الدّولة و تسييرها.
دعونا قبل هذا ننتشي قليلا و نكافئ أنفسنا و نرضى عنها ولو لوهلة ، فمهما بلغ هذا الفصل من سوء ، هو انتصار لجيل ظنّ حال المرأة في بلده هو الأفضل ، ربما هو كذلك اذا ما قارنّاه ببقية الأقطار العربيّة و الاسلامية، و لكن هذا الحال لم يرتقي لمستوى تاريخ هذا الوطن.
و سننتشي لأن المناصفة مدسترة في 4 دول فقط بالعالم : السويد والنرويج و الدانمارك و اليوم تونس.
و سننتشي لأننا كناّ أوفياء ، ولو نسبيّا لمرجعيّتنا التونسيّة، على خطى الفقيهة التونسيّة خديجة بنت سحنون و على خطى أروى القيروانية المرأة التونسية الحرة التي رفضت تعدّد الزوجات وقيّدت الخليفة العبّاسي أبا جعفر المنصور بذلك في الصداق القيرواني (لا يسمح للزوج بالزواج بإمرأة ثانية وإمكانية أن تطلّق المرأة نفسها إذا ما حصل ذلك ولا يسمح بأن ينتقل الرجل بالمرأة الى مكان آخر دون رضاها وحين يتغيب الزوج 3 أو4 اشهر يحكم بالطلاق)، و على خطى مدرسة الزّيتونة التي سبقت الجميع في معانقة المبادئ الكونية و على خطى جدتي التي واجهت بشجاعة المستعمر و كل خطى أمي التي تشقى و تعمل دون كلل.
سننتشي لانتصارنا المبدئي لفكر هذا المجتمع النوّعي في تقدّمه ، فمهما ارتعشت أيادي من خطّ هذه السطور، سننسا كل الاعتبارات السياسية و الحزبية و نترك للتاريخ كلمته : هذا شوط و لكن سوف لن نرضى بما دون المساواة التّامة و الّامشروطة , سوف لن نرضى بما دون رفع كل أشكال الميز ضد المرأة و العنف المسلط عليها و سنبدأ العمل على الحقبات القادمة كجندي مرابط ، كتونسية حرّة ، كجدّتي و أمّي ، كابنة أبي الذي ربّاني ندّا لأخي.
و سأظل كغيري من أبناء هذا الوطن نساء و رجالا نردّد :"أنا من هناك من تونس الشامخة، أنا من هناك من رحم أرض تعلّي شأن نسائها، أنا من هناك من وطن يعود إلى مكانته الطبيعية في الريادة التاريخية و الانسانية فبعد أن كان أول بلدي عربي يخط دستورا (عهد الأمان) و يمنع العبودية و يمنع تعدد الزوجات و يقر بمدنية الزواج و الطلاق، هاهو اليوم يدستر التناصف ، أنا من هناك من وطن يصطفّ فيه تلامذة المدارس اناثا و ذكورا في خطين متوازيين كل صباح لتحيّة العلم.