لنا الحق جميعا أن نتساءل عن الأسباب التي تجعل التيار الإسلامي المحافظ يعمل في جميع البلدان الإسلامية على عرقلة أي قانون يصدر لتجريم العنف ضد النساء، فسواء في الجزائر أو في باكستان أو في بلدان الخريطة الممتدة من شمال إفريقيا إلى بلدان الخليج، يكاد يعتبر ضرب الرجل للمرأة "حقا مكتسبا" بل و"واجبا" حسب بعض الآراء من التيار المحافظ، الذي جعل من مهامه عرقلة القوانين التي تلزم الرجال باحترام أكبر للنساء باعتبارهن مواطنات كاملات العضوية في المجتمع ، بهذا الصدد نشرت وسائل الإعلام خلال الأسبوع الماضي أخبارا عن الاعتراض الشديد للإسلاميين بباكستان على قانون صدر فعلا يدين العنف ضدّ المرأة ، ويحاسب الرجل عليه، معتبرين ذلك القانون "مخالفا للدين الإسلامي" و"مضادا للقرآن"، هذا ما أعلنه مجلس الفكر الإسلامي الذي هو هيئة دينية ذات نفوذ في باكستان تقدم المشورة للحكومة بشأن مدى مطابقة القوانين للإسلام. وقال فضل الرحمن زعيم حزب جمعية علماء الإسلام أحد أكبر الأحزاب الدينية في باكستان "إن القانون مخالف للإسلام ويتعارض مع الدستور الباكستاني". وأضاف قائلا للصحفيين "هذا القانون محاولة لجعل باكستان مستعمرة غربية مرة أخرى" (كذا !؟) وكأن إدانة العنف ضد النساء بدعة غربية لا يجوز تقليدها في بلدان المسلمين.
وقد سبق للتيار الإسلامي بالجزائر أن عبّر عن نفس الموقف قبل أسابيع فقط، حيث ندّد نواب الأحزاب الإسلامية "حركة مجتمع السلم" و"حركة النهضة" و"حركة الإصلاح الوطني" بقانون تجريم العنف ضد المرأة معتبرين أنه يعارض الدستور الذي يقرّ بأن الإسلام دين الدولة، معتبرين أن "النساء شقائق الرجال" وأن الأمر لا يحتاج إلى قانون يجرم عنف الرجال على النساء، ومن أغرب ما قاله الإسلاميون الجزائريون وأكثره إثارة ما صرح به ناصر حمدادوش برلماني "حركة مجتمع السلم" حينما اعتبر أن "القانون ينتهك حرمة البيوت عند إثبات هذه الأفعال والأقوال (أي أفعال وأقوال العنف ضد النساء)، مما يهدّد تماسك الأسرة الجزائرية (كذا!؟)". ولسنا نفهم كيف يسعى هذا البرلماني بعد ذلك إلى بناء "مجتمع السلم" في الجزائر، وهو يُحرض علانية على عدم تجريم العنف الأسري.
ومن المثير للاستغراب أن هؤلاء يعتبرون مواقفهم تلك "دفاعا عن الإسلام"، مع العلم أنها تقدم عن الدين صورة في غاية السلبية. إذ بسبب هذه المواقف أصبح السؤال يطرح بإلحاح عبر بلدان العالم، هل ضرب المرأة هو من تعاليم الدين الإسلامي ؟
أما في المغرب الذي يصل فيه العنف الزوجي إلى نسبة مهولة هي 55 في المائة، فيبدو أن الإسلاميين أكثر ذكاء وحيطة، فهم يعملون داخل كواليس الدولة على عرقلة أي قانون يُجرم العنف ضد النساء، عوض أن يعبروا عن مواقف صريحة تظهر نواياهم. وهذا ما يفسر أن هذا القانون لم يصدر في بلادنا حتى الآن للأسف.ومن المنتظر أن دولا أخرى كثيرة أقل نجاحا من المغرب في التطور الديمقراطي ستسبقنا في هذا المضمار.
وإذا كانت الدولة في المغرب، تقوم بين الفينة والأخرى بحملات تحمل شعار "لا للعنف ضدّ النساء"، فإنّ الواقع يشهد بما لا يدع مجالا للشك على تزايد مخيف للعنف ضد المرأة في بلادنا. مما يحتم وجود قانون رادع لهذه السلوكات الوحشية. كما أن هناك من يعمل ضدّ حملات الدولة التحسيسية سواء في المساجد أو في بعض الإذاعات الخاصة التي جعلت موضتها المفضلة أن تسمح للخطباء المتشدّدين بترويج أفكار مضادة للدستور ولالتزامات الدولة المغربية، مما يستبّب في إضرار كبير بالمجتمع. فقد فوجئت الحركات النسائية بأحد الخطباء الذي يقدم دروسا دينية في إحدى الإذاعات الخاصة، وهو يعلن بأن ضرب المرأة في الإسلام هو "تأديب لها"، وهو واجب الرجل لأنه هو عماد الأسرة والعارف بمصلحتها، وأن ذلك ليس عنفا كما تروّج الدولة، لأن الإسلام يدعو إلى أن يكون الضرب "غير مبرح"، واعتبر ما يسمى "العنف ضد النساء" خطابا غربيا لا علاقة له بقيمنا وتقاليدنا ( !؟)، وطبعا لم يقدم الخطيب المفوّه أي حلّ لمعضلة العنف التي تعصف بالكثير من الأسر، كما لم يدرك عاقبة أقواله اللامسؤولة، حينما دعا إلى "الرفق بالنساء" عند ضربهن.
نستخلص من المواقف المذكورة ما يلي:
ـ أن التيار المحافظ بأحزابه وأفراده يعتبر أي قانون يُجرّم العنف ضدّ المرأة مخالفا لصحيح الدين، وهو بذلك يعتبر أن ضرب المرأة ليس مجرّما في الإسلام بل هو مباح للرجل حيث ورد بصيغة الأمر في أية قرآنية وحديث نبوي، مع اشتراط أن يكون الضرب "غير مبرح".
ـ أن هذا التيار لم يوضح لنا كيف يمكن جعل الرجل الذي يضرب زوجته يكتفي بالضرب "غير المبرح"، كما لم يوضح عقوبة الزوج الذي يقوم بتكسير أنف زوجته أو تشويه وجهها أو إسقاط أسنانها أو زخرفة جسدها بآثار السياط، بل يترك الأمر للوازع الأخلاقي للزوج ولمزاجه، أما الواقع فيقول إن جميع الشكايات التي تقدمت بها نساء لمراكز الاستقبال المخصصة لهذا الغرض (وهنّ عشرات الآلاف)، تقدم شهادات وحججا عن عنف وحشي يؤدي بعضه إلى تشوهات وعاهات، دون أن ننسى الحالات المؤدية إلى القتل، والحالات المؤدية إلى الانتحار بسبب العنف الزوجي غير المعاقب عليه.
ـ أن هذا التيار يعتبر أن العنف الزوجي شيء يخصّ الأسرة في حياتها الحميمية ولا يحق للمرأة أن تطالب بتطبيق قانون يعاقب زوجها الذي لا يريد التوقف عن ممارسة العنف، لأن ذلك يصبح هتكا لحميمية الأسرة التي هي شأن داخلي لا تخص إلا علاقة الزوج بزوجته، هذه العلاقة التي تتحول إلى إطار شرعي لممارسة العنف.
ـ أن هذا التيار يرى بأن الأسرة ينبغي أن تقوم على قوامة الرجل وليس على المساواة والمسؤولية المتقاسمة، مما أدى به إلى اعتبار أن العنف الأسري هدفه "تأديب" الزوجة وضمان "طاعتها" لزوجها، هذه الطاعة التي "تقوي الأسرة" وتجعلها "مستقرة"، ولا يهمّ أن يكون هذا الاستقرار على حساب صحّة المرأة وكرامتها. هذا مع العلم أن الواقع المغربي (كما هو الشأن في عدد من البلدان الإسلامية) وكذا مدونة الأسرة، قد تجاوزا مفهوم القوامة.
ـ أن هذا التيار لا يعبأ للتحولات التي مسّت الأسرة ووضعية المرأة في المجتمع، حيث أصبحت بدورها قوّامة على الأسرة بعملها وبما تنفق، وبإسهامها في جميع المجالات، وغادرت الحريم الذي كان يجعل منها متاعا للرجل يتصرف فيه كما يشاء، كما أن هذا التيار لا يأبه لالتزامات الدولة ولما وقعت عليه من عهود واتفاقيات تنصّ على رفع كل أشكال الميز والعنف ضدّ النساء. كما لا يكترث لكون الثقافة التي تنتشر وتسود بالتدريج قد أصبحت رافضة للعنف بجميع أشكاله وألوانه وأيا كان مصدره أو تبريره.
ـ أن هذا التيار لا يجيب عن سؤال بقي عالقا رغم ذلك، وهو: إذا كانت المرأة تؤدّب لأخطائها فمن يؤدِب الرجل بسبب أخطائه في حق زوجته وأسرته، يقول أحد الفقهاء "فشتم الزوجة لزوجها وسبُّه، مما يبيح ضربها للتأديب" فماذا لو سألناه عن زوج يسبّ زوجته ويشتمها ؟ طبعا لا جواب سوى تعليق ذلك على الوازع الأخلاقي ومزاج الرجل.
ـ باختصار يرى هذا التيار أن النص الديني أسبق من الإنسان ومن كرامته، وأن ما قاله الفقهاء القدامى في فهم النصوص أولى من الفهم المعاصر للعلماء المجتهدين، والنتيجة أحد أمرين، إما أن ينجح هذا التيار في تكبيل الدولة والمجتمع والعودة بهما إلى سلوكات كان ينبغي تطليقها منذ زمن، وإما أن تمضي قافلة التغيير تاركة وراءها من لا يريد اللحاق بها.
ـ خلاصة الخلاصة أن ما يبدو في آراء التيار المحافظ هو حرص الرجال على مصالحهم الدنيوية، كما كان عليه الأمر من ذي قبل، وإلا فكيف نفسر قبولهم الاجتهاد في أمور وردت فيها نصوص "صريحة قطعية الدلالة" ورفضهم الاجتهاد في أخرى، لقد اجتهدوا في موضوع تولي المرأة لمناصب السلطة والترأس والقضاء وهم يعلمون أن ذلك مخالف لما أقره الفقه الإسلامي منذ قرون طويلة، وما ذلك إلا لأنهم مستفيدون من رواتب النساء، بينما يرفضون رفع العنف عن المرأة لأنهم لا يريدون تكبيل أنفسهم بقوانين تجرّم أخطاءهم.
غير أنّه في مقابل هذه الآراء الغريبة، نجد بعض الآراء الاجتهادية المخالفة التي نظرت إلى روح الدين لا إلى ظاهر نصوصه، واعتمدت نظرة إنسانية شمولية لا تجزيئية، تعتبر الدين وسيلة لخدمة الإنسان لا الإضرار به، ومنها رأي مفتي مصر السابق علي جمعة الذي قال بهذا الصدد:" «ضرب المرأة من الكبائر، والطلاق أفضل وأهون". كما قدم الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء والرئيس السابق لجامعة الأزهر، تأويلا آخر للضرب غير المبرح حيث قال إن "الضرب المباح مقصده التوبيخ أو الزجر المعنوي فقط". وهو رأي رغم أنه ما زال يعتبر المرأة قاصرا ينبغي توبيخها مثل الطفل، إلا أنه رأي متقدم مقارنة بما يراه "جمهور الفقهاء" .
لقد أقرت الأمم المتحدة الإعلان العالمى لمناهضة العنف ضد النساء الصادر في 1993، والذي ينصّ على أنه: "ينبغى للدول أن تدين العنف ضد المرأة وألا تتذرع بأي عرف أو تقليد أو اعتبارات دينية بالتنصل من التزامها بالقضاء عليه". وقد انخرط المغرب في عدد كبير من الالتزامات بهذا الصدد، وليس عليه إلا اللحاق بالدول التي سبقته بإخراج القانون المنتظر، الذي سيكون له مفعول إيجابي يحدّ من استفحال هذه الظاهرة الخطيرة.